نشرت مجلة “نيو ليفت رفيو” البريطانية، في عددها الصادر في 21 يونيو 2024 مقالاً بعنوان: “انهيار الصهيونية” للدكتور إيلان بابيه، وهو مؤرخ “إسرائيلي” وعالم سياسة وسياسي سابق. ويعمل حالياً أستاذا في كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية في جامعة إكستر في المملكة المتحدة، ومديرا للمركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية التابع للجامعة، والمدير المشارك لمركز إكستر للدراسات العرقية والسياسية.
إيلان بابيه الذي وُلد في حيفا في عام 1954 لأبوين يهوديين من أصول ألمانية وترعرع وتعلم في الأراضي المحتلة، ثم خدم في الجيش “الإسرائيلي” وتولى مناصب أكاديمية رفيعة في جامعاتها، يرفض الصهيونية، ويدعو في كتاباته إلى قيام دولة واحدة في فلسطين من البحر إلى النهر على أنقاض الكيان الصهيوني، تضمّ الجميع على اختلاف أعراقهم وأديانهم وأصولهم، كما أنه يرفض كذلك السردية الصهيونية السائدة في المجتمع “الإسرائيلي” وكانت لديه الشجاعة الأخلاقية والأدبية ليقول إن “إسرائيل” قامت على أنقاض فلسطين وفق خطة معدة مسبقًا حتى اليوم
يقول بابيه في مقاله، يمكن تشبيه هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 بالزلزال الذي ضرب مبنى باليًا، لقد بدأت الشقوق بالظهور بالفعل، لكن تلك الشقوق يمكن رؤيتها الآن في الأساسات ذاتها. وبعد مرور أكثر من 120 عاماً على بدايته، هل يمكن للمشروع الصهيوني في فلسطين، القائم على فكرة فرض دولة يهودية على دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية– أن يواجه احتمال الانهيار؟
تاريخيا، هناك عدد هائل من العوامل التي يمكن أن تتسبب في انقلاب دولة ما رأسا على عقب، حيث يمكن أن ينجم ذلك عن هجمات مستمرة من قبل الدول المجاورة أو عن حرب أهلية مزمنة. ويمكن أن يتبع ذلك انهيار المؤسسات العامة، التي تصبح غير قادرة على تقديم الخدمات للمواطنين. وغالبا ما يبدأ ذلك كعملية تفكك بطيئة تكتسب زخما ثم سرعان ما تنقض الهياكل التي كانت تبدو ذات يوم صلبة وثابتة .
وتكمن الصعوبة في اكتشاف المؤشرات المبكرة لذلك. ومن ثم سأزعم أن هذه الأمور قد أصبحت أكثر وضوحا، من أي وقت مضى في حالة “إسرائيل”. حيث نشهد الآن عملية تاريخية -أو بشكل أكثر دقة، بدايات عملية تاريخية- من المرجح أن تبلغ ذروتها بسقوط الصهيونية تماما، وإن كان تشخيصي هذا صحيحاً، فذلك يعني أننا سندخل أيضا ظرف بالغ الخطورة. وبمجرد أن تدرك “إسرائيل” حجم تلك الأزمة، فسوف تطلق العنان لقوة شرسة وغير مقيدة في محاولة لاحتوائها، كما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال أيامه الأخيرة.
انقسام المجتمع اليهودي
من المؤشرات الأساسية لبوادر انهيار الصهيونية، هو انقسام المجتمع اليهودي “الإسرائيلي”. حيث يتألف حاليًا من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم بينهما. وينبع هذا الصدع من الاختلالات التي تشوب تعريف اليهودية باعتبارها قومية. ففي حين بدت الهوية اليهودية في “إسرائيل” في بعض الأحيان أ كثر قليلا من مجرد موضوع للنقاش النظري بين الفصائل الدينية والعلمانية، إلا أنها أصبحت الآن صراعا حول طبيعة المجال العام والدولة نفسها. وهذا الأمر لا يتم الصراع حوله في وسائل الإعلام فحسب، بل في الشوارع أيضا ويمكن تسمية أحد المعسكرين بدولة “إسرائيل”. وهي تضم المزيد من العلمانية والليبرالية، ومعظمها، إن لم يكن جميعها، من اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة وأحفادهم، الذين لعبوا دورا فعالا في تأسيس الدولة، على أنقاض دولة فلسطين، في عام 1948 وظلوا مسيطرين عليها حتى نهاية القرن الماضي.
وحتى لا يخطئ أحد في فهم ذلك، فإن دفاعهم عن “القيم الديمقراطية الليبرالية” لا يؤثر على التزامهم بنظام الفصل العنصري المفروض على جميع الفلسطينيين الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، بطرق مختلفة. ومنتهى أمانيهم الأساسية هي أن يعيش المواطنون اليهود في مجتمع ديمقراطي تعددي يُستبعد منه العرب.
والمعسكر الآخر هو دولة “يهودا” التي ترعرعت بين مستوطني الضفة الغربية المحتلة، وتتمتع بمستويات متزايدة من الدعم داخل البلاد وتشكل القاعدة الانتخابية التي ضمنت فوز نتنياهو في انتخابات نوفمبر 2022. ويتزايد نفوذ هذا المعسكر في المستويات العليا في الجيش “الإسرائيلي” وأجهزة الأمن بشكل كبير. وتريد دولة يهودا أن تصبح “إسرائيل” دولة دينية تمتد على كامل فلسطين التاريخية. ولتحقيق ذلك، فهي عازمة على خفض عدد الفلسطينيين إلى الحد الأدنى، وهي تفكر في بناء معبد ثالث بدلا من المسجد الأقصى وعلى أنقاضه، ويعتقد أعضاؤها أن هذا سيمكنهم من تجديد العصر الذهبي للممالك الكتابية.
وهم يعتبرون اليهود العلمانيين هراطقة مثلهم مثل الفلسطينيين في حال رفضهم الانضمام إلى هذا المسعى، وكان المعسكران الديني والعلماني، قد بدآ بالفعل في الاشتباك العنيف قبل أحداث السابع من أكتوبر. وفي الأسابيع القليلة الأولى في أعقاب هجوم حماس على المستوطنات في غلاف غزة، بدا أنهما يضعان خلافاتهما جانبا في مواجهة العدو المشترك لهما. ولكن هذا لم يكن سوى مجرد وهم. فقد اندلع الصراع في الشوارع من جديد، ومن الصعب نرى ما يمكن أن يحقق المصالحة بين المعسكرين. والنتيجة الأكثر احتمالا أن تتكشف بالفعل أمام أعيننا.
فقد غادر أكثر من نصف مليون “إسرائيلي”، يمثلون دولة “إسرائيل أي العلمانيين، البلاد منذ شهر أكتوبر، وهو مؤشر على أن البلاد تجتاحها دولة “يهودا أي المتدينين، وهذا مشروع سياسي لن يتسامح معه العالم العربي، وربما العالم أجمع، على المدى الطويل.
الخلل المركزي في الاستراتيجية الإسرائيلية ليست في فشل تكتيكات وتقنيات قوتها العسكرية، وإنما في سوء فهمها لمصدر قوة حماس، فعلى مدار شهور كان المحللون والحكومات محصورين في قياس نجاح إسرائيل من خلال مقارنة أعداد “الشهداء” في صفوف حماس، مقابل “القتلى” في صفوف الكيان، ويرى بابيه أن ذلك لا يمنح تقييماً حقيقياً لقوة حماس.
انتصار حماس الفكرة والعقيدة
في مقابل رؤية إيلان بابيه عن انهيار دولة الكيان، كتب روبرت بابيه في مجلة فورين أفيرز الأمريكية عن انتصار حماس في حربها منذ السابع من أكتوبر 2023، مؤكداً أن الخلل المركزي في الاستراتيجية الإسرائيلية ليس في فشل تكتيكات وتقنيات قوتها العسكرية، وإنما في سوء فهم إسرائيل لمصدر قوة حماس، فعلى مدار شهور كان المحللون والحكومات محصورين في قياس نجاح إسرائيل من خلال مقارنة أعداد “الشهداء” في صفوف حماس، مقابل أعداد “القتلى” في صفوف الكيان، ويرى بابيه إن التركيز على هذه الأرقام لا يمنح تقييماً حقيقياً لقوة حماس. فبالرغم من خسارات الحركة، إلا أنها تسيطر على إدارة القطاع، وتتمتع بدعم الغزيين وفقاً لاستطلاعات الرأي. وتقديرات الاحتلال أن مقاتلي حماس في الشمال باتوا أكثر منهم في رفح.
ويضيف إن الجيش الإسرائيلي يمارس لعبة الأعداد للتدليل على نجاحه. وفي هذه الحالات، فإن الأعداد لا تعكس النتيجة. مستشهداً بوضع الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وقبلها فيتنام، فإن مصادر قوة الخصم (حماس) ليس في حجم الجيل الحالي من المقاتلين، وإنما في القدرة على كسب دعم من المجتمع المحلي في المستقبل، ولا تكتسب الجماعات مثل حماس قوتها من العوامل المادية التي تنطبق على الدول، وإنما من قدرتها على التجنيد واجتذاب جيل جديد من المقاتلين مستعد للموت من أجل قضيته. وهذه القدرة تتجذر بعامل وحيد وهو الدعم المستمد من المجتمع.
ويؤكد بابيه على أن دعم المجتمع يتيح للحركة إعادة ملئ الصفوف، وكسب الموارد، وتجنب الاكتشاف، والحصول على الموارد المادية والبشرية لتعبئة حملاتها. ويشير أن المجتمع يلعب دوراً مركباً في تزويد المنظمة بالموارد والمعلومات والحماية معاً، ويتناول مفهوم “الشهادة” كضرورة اجتماعية لدفع المتطوعين الانضمام لصفوف الحركة التي يمجّد مجتمعها التضحية، ويمنح الشرعية للقتال ويشجع على مزيد من التجنيد، وويضيف أن المجتمع هو الذي يحدد بالنهاية شكل ومكانة التضحيات الفردية، هل هي في مكانة رفيعة أم كانت غير عقلانية أم تستحق الازدراء.
واعتبر بابيه أن خسارة دعم المجتمع المحلي هي الكارثة الحقيقية على التنظيمات المشابهة. مستشهداً بتجربة الولايات المتحدة في إنشاء الصحوات في العراق من أجل تفكيك المقاومة السنية، أما في حالة حماس، فإن العامل الأهم هو حجم دعم الفلسطينيين للحركة. فقد نجحت حماس في صناعة لحظة لتجميع الفلسطينيين حول قضيتهم الوطنية، وهذا كان سبباً لتفسير لماذا لم يتعاون الغزيون في تقديم معلومات استخبارية للاحتلال عن أماكن قيادة حماس والرهائن الإسرائيليين.
كما تميزت حركات المقاومة الفلسطينية فيما أسماه بابيه “قوة الرسالة” التي أدارتها حماس باقتدار من خلال إعادة توجيه مشاعر الغضب والخوف لدى الناس باتجاه أهداف مختلفة عن تلك التي أرادها الاحتلال عندما استهدف المدنيين في غزة. ويتناول بالتفصيل فيديوهات ورسائل حماس الإعلامية وحربها الدعائية، مؤكداً أن حماس تنظيم أكبر من مجموع عدد مقاتليه، وأكبر من مجرد فكرة مثيرة، إنها حركة سياسية اجتماعية جوهرها العنف (المقاومة المسلحة)، ولن تنتهي في أي وقت قريب، فالحركات التي تجمع بين قوة الرسالة وقوة العقيدة وقوة الفكرة، والإيمان بعدالة القضية، من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يتم القضاء عليها، مهما كانت الأوزان النسبية للقدرات العسكرية.