لا تستبق هذه الدراسة نتائج الانتخابات الأمريكية، ولا تسعى للتوغل في الاستنتاجات التي يخوضها المتخصصون في الشأن الأمريكي، وإنما تنطلق من فهم واقع الخليج العربي السياسي اليوم، وطبيعة التغيرات التي طرأت عليه، وكيف ستعبر هذه العُهدة المرجحة، في علاقات دول مجلس التعاون الخليجي الجماعية أو المنفردة مع واشنطن.
ولكن من الطبيعي أن تأخذ الدراسة، بترجيح عودة الرئيس الأمريكي السابق، والمرشح الحالي دونالد ترمب، في ظل توقعات المراقبين والاستطلاعات الأخيرة، منذ كارثة المناظرة الرئاسية التي هوت بأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، وبعدها نجاة ترمب من محاولة اغتيال، عززت أسهمه بقوة في الرأي العام الأمريكي، وبالذات المتردد، وعززت قوته ووحدة الحزب الجمهوري معه، وهو ما حصل عكسه في الحزب الديمقراطي.
وعليه فإن مواجهة الخليج العربي، لحقيقة عودة ترمب بعد خروج النتائج في انتخابات نوفمبر القادم، أمر أساسي في رسم سياسات المستقبل الجيوسياسي وهي مهمة هذه المادة في محاولة وضع إطار تحليلي لها.
بين أمريكا الأمس وأمريكا اليوم
أول ما يلفت النظر في هذا الشأن هو التساؤل عن واقع القدرات الامريكية المطلقة، التي حسمت علاقة واشنطن بالدول الخليجية، منذ التأسيس أو الاستقلال، والتي كانت فيها علاقة مفتوحة المصالح، لا يوجد فيها طرف دولي منافس، ورغم بعض الاختلافات التي طرأت بين واشنطن وبين بعض دول الخليج العربي، أبرزها موقف الملك فيصل، من الصراع مع الكيان الصهيوني، إلا أن دول المجلس الخليجي، ظلت في دائرة المنطقة الموالية والمحسوبة على حلفاء واشنطن.
وحتى الانتقادات للسياسات الداخلية حقوقياً أو اقتصادياً يتم احتواؤها، وتتجاوز التوتر الموسمي، وهذا حدث في عهد أوباما، ثم تجدد في عهد بايدن، في الخلاف مع الرياض على سبيل المثال، وهي الدولة الأكبر والأبرز في منظومة المنطقة، ولا بد هنا من التذكير، أن مساحات الحقوق والحريات والمشاركة الشعبية، لم يكن لها ذالك الاهتمام في حراك الإدارة ولا المشرّع الأمريكي.
إلا من خلال هامش صغير، قد يُعبّر عنه لفظياً في تصريح هذا المسؤول أو ذاك، أما عملياً فإن اهتمام واشنطن في الحياة الخليجية ينصَبُ على السلوك اللبرالي الشخصي، وصناعة فكرة المكونات في تقسيم الشعوب، إما من خلال طبائع جنسانية أو اتجاهات فكرية، أو من خلال تعزيز الانقسامات المجتمعية في ذات الشعوب، على أساس المذهب والطائفة أو العرق.
ونقصد هنا أن مجمل التناول الأمريكي، للشأن الداخلي الخليجي، لن تجد فيه مطلقا دعماً للمشاركة الشعبية، ووصول قرار يحدد مصالح هذه الشعوب، خارج الارتباط بمصالح واشنطن، وفي الأصل لا تقبل الإرادة الغربية السياسية بالوصول إلى هذا المستوى، بل تراه مهدداً لها، ولكنها تستبدل هذه الحقوق، بالمنظومة التي ذكرناها، والتي يتم تداولها عبر أيدٍ ناعمة جداً، تعبر بعدها السياسية الأمريكية الخليجية، الى تسوية تصب في مصالح رجل السياسة والمال الأمريكي.
مشارطات النقد الأمريكية لحكومات الخليج
وحتى تناول الإعلام الأمريكي، بل الكثير من شخصياته ذات التوجه (الديمقراطي) فرغم تعرضهم لبعض هموم الشعوب، إلا أنهم في نهاية الأمر، تدور كوتة الضغط والتكثيف الإعلامي لديهم، حول أجندة السلوك اللبرالي الشخصي، كتقليد للحالة الغربية في تطورها المادوي والتصوري عن الإنسان والوجود، وربط إنسان عالم الجنوب في قاطرة تسليع الحياة (الحداثية)، هذا هو مركز الاهتمام الغربي، الذي يعزل منظومة الحقوق السياسية المركزية للفرد في الخليج العربي، حتى في المشروع الليبرالي كمشروع تحرر شامل، يشمل الحق السياسي، فيُفرز هذا المستوى الحقوقي في صناعة الخطاب السياسي، عن قائمة مطالب الإعلام والمشرّع الأمريكي للحكومات الخليجية.
مساحة المعارضة الخليجية
ولا يمنع ذالك من أن تخرق المنظمات الحقوقية الأمريكية هذا السقف، كـ (هيومن رايتس واتش) وبعض أعضاء الكونجرس، فيُدعم ضحايا المطالب السياسية الكبرى في الخليج العربي أحياناً، غير أن هناك تناغم بين هذه الأطراف في السقف الذي يجب أن يقف عنده الطموح التغييري في الخليج العربي، بل إن حتى المعارضات المقيمة في الغرب، فهي غالباً تخضع إما لحالة إقامة منعزلة، عن أي دعم، فيمارس الناشط السياسي دوره كموقف فردي، يستغل الحياة الحقوقية والدستورية لمواطني ومقيمي الدولة في أمريكيا وغيرها.
أو أن يُدعم من مؤسساتها القريبة من البيت الأبيض أو الكونجرس، ويُخضع للتصور الذي شرحناه في سقف الحقوق المتاحة لأبناء الخليج العربي، أو تشجيعه لكي ينخرط في تعزيز أو إحداثٍ طارئ لتقسيم مكونات الشعب، مذهبياً أو سلوكياً أو فكرياً، فيُطابق عمله هنا، متطلب الفكرة الأمريكية لطريقة حياة المجتمع والإنسان الخليجي.
إن شرح هذا البعد المتقدم، ثم الانتقال إلى طبيعة هذه المطالب الأمريكية، الشكلية في الحقوق الرئيسية، والمركزية في تغيير ضمير الفرد وفي خارطة المجتمع، لم تكن قاصرة على عهود الديمقراطيين، بل كانت حاضرة حتى في عهود الحزب الجمهوري، وحين وصل الرئيس بايدن إلى السلطة لم تتغير محاولة سياسة الاحتواء، بل واصل عبرها السعي لإصلاح العلاقة مع الرياض الجديدة، بما فيه الخروج من ملف استشهاد الكاتب السعودي الإسلامي جمال خاشقجي.
ولذلك فإن هناك تساؤل للسقف الذي ممكن أي يُغيره الرئيس ترمب، والحماس له من قبل بعض الدول الخليجية، فأبرز ما تحقق في عهدة ترمب الأولى، هو تحقيق غلة كبيرة من ميزانيات الدول الخليجية، لم تُعبّر عن شراكة ولا مصالح اقتصادية عليا للطرف الخليجي، بقدر ما هي استنزاف من خزينة الدول.
ترمب وإرث الأزمة الخليجية
إن هناك استدعاء لدى البعض لقضية الأزمة الخليجية، والتي مرت بمنعطف خطير في تاريخ الإقليم، في حال عودة الرئيس ترمب، والحقيقة أن الواقع القائم اليوم، والمصالحات السياسية، بل الاختلاف بين أعضاء ذالك الصراع تغير تماماً، فضلاً عن أن ترمب نفسه، منذ أن عبر المأزق الشرس في الأزمة، بدأ يتعامل مع ما قررته المؤسسات السيادية الكبرى في واشنطن.
حين حذر ولفت نظره من أن ما حصل من تشجيع لإشعال الأزمة، من طرفه كان خطأً استراتيجيا بالغاً، وإن وظفها ترمب لصالح ارهاق ميزانيات دول المنطقة، لكنه في النهاية كلف جاريد كوشنير، صهره وكبير مستشاريه بإنهاء الأزمة، بناء على الوصية المشددة من الجهات السيادية، وهذا ما حصل بالفعل في عهد ترمب ذاته.
أما العلاقة الخاصة والشراكة الجنائية مع تل ابيب، فإن من السخرية أن يقارن بين الطرفين، فكليهما في تنافس شديد لتحقيق المقعد الأول، كداعم للسلوك الإرهابي من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين، وتغطية كل المجازر ضد الشعب الفلسطيني، قبل محرقة غزة بعقود، وتصريح بايدن الأخير بانه كادر صهيوني، يوضح هذا العبث في المقارنة بينهما.
تبدلات المقاعد بعد التصالح الخليجي
ثم توالت المصالح والعلاقات البينية، وتغيّر موقف هذه الأطراف الخليجية ذاتها منذ يناير 2021، بل إن المحور ذاته تفكك، وكل طرف من دول الخليج العربي، أخذ بعداً آخر بما فيه العلاقة الجديدة بين الدوحة والرياض، والخلاف الأخير بين الرياض وأبو ظبي والقاهرة، حتى لو كان خلافا قابلاً للتجاوز، لكن القصد، هو أن أرضية ذالك الصراع الخطير في الأزمة الخليجية لم تعد قائمة.
كما أن الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب، لم يعد هو ذاته الشخص الذي حكمته لحظة الخامس من حزيران يونيو 2017، ليس لمراعاة أهل الخليج العربي، ولكن لمراعاة مصالح واشنطن، وأن الخروج على تقاليدها المركزية يُخشى أن يرتد عليها.
وهذا لا يلغي أن طبيعة السلوك (الترمبي) قد يبقى له دوراً سلبيا حساساً، في تهييج بعض السياسات، لكن ليس في إطار سلوك تلك الأزمة، إنما فيما يراهن عليه ترمب، في مساحة كبرى لصالح رأسمال المؤسسة الامريكية ولصالح دعم مرحلة ما بعد ذبح غزة.
موسكو والعودة الى المياه الدافئة
واستثمار آخر سجل انتكاسات إرث الربيع العربي، وما يطلق عليه الثورات المضادة، لا يحتاج معه إلى فوضى خلّاقة أخرى، وإنما ما يمثل تحدياً بالغاً لمستقبل نفوذ واشنطن، هو عودة موسكو للمياه الدافئة في الخليج العربي، ليس من خلال الغزو العسكري السوفييتي، ولكن عبر قناعات هذه الدول نفسها.
ومع أن موسكو أعلنت تأييدها الأكيد لترمب، وأنها منفتحة على فُرص فوزه، وهناك حراك جديد من قبل المجر بعد ترأسها للاتحاد الأوربي، الذي سبق أن التقى مبعوثها المرشح الرئاسي ترمب، لصفقة محتملة مع الروس، في ملف أوكرانيا، إلا أن حالة التراجع الأمريكي في قدرات التأثير على محيط الدول الحليفة، سيكون بالغ الحساسية لواشنطن في حال دخلت دول الخليج العربي هذه المنعطف.
ولقد بدأت بالفعل مؤشرات التغيير، حتى مع الحليف الأقدم لموسكو وهي ايران، فدول الخليج العربية مستمرة في التطبيع مع طهران، التي عززت مكاسبها بعد ذبح غزة، باعتبار الطرف المضحى به، كان ضمن بطاقات التأثير والتقاطع، وأنها اليوم تمتلك رسائل تأثير أقوى، ومواليها العقائديين، في لبنان والعراق واليمن يحكمون الساحة، لا حظ هنا أن كل الخطوط تحيط بدول الخليج العربي، التي فشلت في تحقيق اختراق لصالحها، بل أفسدت ذات بينها عبر بعض سياساتها.
ما يهمنا هنا هو الموقف الأمريكي، كيف سيُعيد ترمب رابطة العلاقات المحورية للتاريخ الأمريكي مع الخليج، وضمان عدم انسحاب قدرة واشنطن كحليف أول له حق المشارطة، فالواقع الأخير، والتفات دول مجلس التعاون الخليجي لانتصار موسكو، أصبح مشهوداً، فهل تمثل عودة ترمب بدأ معركة استرداد لنفوذ امريكا، أم العكس، بناء على لوجستية خطابه وعلاقته بالعالم الأمريكي أولا، فتعبر صفقته الجديدة مع الروس على حساب الخليج العربي ليزيده رهقا.