لطالما كان الصراع اللبناني الإسرائيلي محوراً رئيسياً للتوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، ويشكل هذا الصراع تحدياً كبيراً لمستقبل لبنان بسبب تأثيراته العميقة على الاقتصاد وعلى الأمن والاستقرار السياسي، فمنذ تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948، شهدت المنطقة العديد من الحروب والنزاعات. أبرزها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي أدى إلى انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. تلاه انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000، لكن حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل كانت من أكثر النزاعات تدميرا، إذ تسببت في دمار واسع في البنية التحتية اللبنانية وتهجير اللبنانيين.
جذور الصراع
غن خلفية الصراع الدولي حول لبنان مُرتبط بصراع اقليمي-دولي يستهدف الكيان اللبناني منذ تكوينه عام 1943 أي، لبنان الكبير حيث كان مخطط القوى الاستعمارية آنذاك انشاء دولة مسيحية تحمي المصالح الغربية وتدعم الكيان الإسرائيل المستعمرة الغربية في المنطقة، عبر مشروع الأقليات المارونية أو ما كان يعرف آنذاك بالدولة المسيحية المستقلة عن دولة سوريا.
غير أن هذا المشروع مني بالفشل فتم الانتقال إلى دعم المجموعة المسيحية التي قادها في ذلك الحين الرئيس بشير الجميل والتي كانت تشهد حربا وجودية مع الفلسطينيين والتي بموجب اغتيلت التجربة بفعل اخطاء ارتكبها مسيحيو لبنان يضاف اليها الخلافات والانقسامات داخل الجسم المسيحي الأمر الذي أضعف المشروع الإسرائيلي في لبنان الذي يقوم على دعم الاقليات وتقليبها عبر دعم توجهات تحررية وانفصالية تؤدي إلى التجزئة والتناحر والفوضى الامر الذي يخدم الامن القومي الإسرائيلي.
وحين نشأت الثورة الاسلامية في طهران وجد الغرب فيها ملاذاً وامكانية لتفتيت المنطقة طائفيا ومذهبيا عبر صراعات طائفية لا متناهية، اكسبت إسرائيل الكثير من الفرص والامكانيات على خلفية لعب دور الضحية المستهدفة على يد الإرهابيين والجماعات المتطرفة، الأمر الذي أسهم بشرعنة وجودها بسبب أخطاء عديدة قام بها العرب بسبب التباينات وتناقضات الاضاد فيما بينهما، والتي تحرك خياراتها جهات خارجية تتحكم بقراراتها.
الصراع وتقاسم النفوذ
إن ما يجري في لبنان كان ولايزال صراع الآخرين على أرض لبنان، لذا فإن الصراع اليوم محكوم بطبيعة العلاقات الإيرانية –الأمريكية حول تقاسم النفوذ في المنطقة وتداعيات الحرب الاوكرانية –الروسية والحرب على فلسطين التي تكللت بطوفان الاقصى التي أعطت فرصة كبيرة لإسرائيل من أجل تصدير أزماتها الداخلية التي تعتري المجتمع الإسرائيلي من انقسامات متباينة.
وهذا كان واضحاً من خلال طبيعة الاشتباكات الحاصلة في المنطقة وما يعرف بجبهة الاسناد التي شكلت بها مشاغلات عبرت عن استراتيجية تقوم على إعماء العدو واستنزافه من خلال تراكمات مزعومة ظنا منهم أنهم يستهدفون إسرائيل، والحقيقة ان واقع الصراع متجاذب، ويبرز فيه تفسيران:
أولا: أن تكون هذه الحرب فعلا تحقق أهدافها وتزعج العدو وتربكه، الأمر الذي يعيق الإسرائيليين عن توسيع حربهم وفتح جبهة لبنان وبخاصة بعد البلبلة التي أحدثتها مسيرة أطلق عليها اسم الهدهد، إضافة إلى التصعيد الذي احدثته إيران على خلفية استهداف قنصليتها في دمشق، وتحرك الميليشيات الايرانية في كل من اليمن والعراق.
ثانيا: أن تكون هذه الحرب مجرد مشاغلات ومعارك تلفزيونية تستغل الاوضاع في غزة ولبنان من أجل رفع سقف المفاوضات حول تقاسم النفوذ في المنطقة عبر اثارة تحركات شكلية في العراق والبحر الاحمر يستهدف الامن القومي العربي ويجني مكاسب استراتيجية خاصة بإسرائيل وإيران.
التصعيد عبر الحدود
تظل الحدود اللبنانية الإسرائيلية نقطة اشتعال رئيسية، مع اشتباكات متقطعة وتوترات متصاعدة أكثر دقة واستحكاماً عبر سلسلة استهدافات اسراتيجية في العمق اللبناني كما حصل في الضاحية والبقاع وبعلبك، أو تنفيذ هجمات اغتيال تستهدف قادة من النخبة لدى حزب الله وحماس في عمق المربع الأمني لدى حزب الله على غرار صالح العاروري أو رضا الموسوي في دمشق.
وتستمر إيران بدعم حزب الله، بينما تحصل إسرائيل على دعم قوي من الولايات المتحدة. ويضاف إلى ذلك الأزمات الداخلية في لبنان مثل الانهيار الاقتصادي والاضطرابات السياسية والاجتماعية والتي تؤدي إلى تعقيد الوضع، مما يجعل البلاد أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية وطبيعة المناورات والتسويات التي تحصدها المفاوضات بشأن العدوان على غزة، ومدى قابلية الاطراف في التنازل وتفعيل الجهود الدبلوماسية من أجل تحقيق السلام ووقف الحرب.
السيناريوهات المحتملة
السيناريوهات المحتملة لمستقبل الصراع بين إسرائيل وحزب الله تتوقف على طبيعة الحسم الميداني وتداعياته على الحرب في غزة، وقدرتها على تحقيق أهداف استراتيجية عبر القنوات التفاوض والنشاط الديبلوماسي وبخاصة أن طرفي النزاع قد صرحا أنهما لا يريدان الحرب، وهنا تبرز عدة احتمالات للصراع ومساراته ومحدداته:
السيناريو الأول: تصعيد محدود:
أن تستمر المعارك وفق قواعد الاشتباك كما هو عليه بشكلا يتجاوز الخط الأزرق ومشاغلات عبر قصف مواقع محدودة، بهدف استنزاف العدو عبر اشتباكات متقطعة على الحدود تشمل ضربات جوية محدودة وهجمات صاروخية ترهق إسرائيل. وذلك من خلال تحقيق دمار محدود في البنية التحتية، وتزايد الخسائر البشرية، وزيادة الضغط على الاقتصاد اللبناني المتدهور منذ انفجار مرفأ بيروت وانتفاضة 17 تشرين وصولا إلى حرب الجنوب.
السيناريو الثاني: حرب شاملة:
من خلال اشتباك واسع يشمل جميع مناطق لبنان وشمال إسرائيل مع تدخلات اقليمية ودولية. مما يلحق دمارا واسع النطاق، انهيار كامل للبنية التحتية، نزوح جماعي، وزيادة كبيرة في معدلات الفقر والبطالة.
وخاصة مع دور المسيرات التي تقوم بالتحليق فوق مواقع استراتيجية، الأمر الذي أقلق وأرعب إسرائيل عبر ارسال رسالة مفادها أن المقاومة قادرة على استهداف أمن إسرائيل ومنشآتها الحيوية وضرب قطاع الكهرباء الأمر الذي يشل كامل إسرائيل الذي يقوم اقتصادها على التكنولوجيا.
وبالتالي، وسط هذه التهديدات ومطالب إسرائيل بتزويدها بالسلاح بحسب نتيجة التهديدات التي يشكلها حزب الله عبر استهدافاته بالمسيرات، فإذا استمرت تهديدات وتجاوزات حزب الله بهذا الشكل، فسوف يفتح الأبواب على مصرعيه وفق حرب إقليمية تقودها ايران بالوكالة عبر تشغيل ميليشياتها في كل من اليمن والعراق وسوريا للقتال في لبنان، إذا لم ينسحب حزب الله ثمانية كيلو مترات إلى خلف الليطاني.
الامر الذي سوف يقود إلى سيناريو كارثي شبيه بالحرب اللبنانية، وخاصة أن خطاب نصر الله وتهديداته إلى قبرص، أشار إلى أن الحرب لن يكون لها أفق، مما يدلل على إمكانية تسليح الجيش اللبناني ونشره على الحدود لمواجهة ميليشا إيران والتصدي لها.
وهذا ما عبّر عنه المتحدث باسم الاتحاد الاوروبي والشؤون الخارجية بيتر ستانو، على اعتبار أن أي تهديد ضد قبرص هو بمثابة تهديد ضد الاتحاد ككل. فضلًا عن تقديم حزمة قيمتها مليار يورو لمساعدة الجيش اللبناني في حال اندلعت الحرب الشاملة في لبنان. ما سوف يزيد من الانقسام الطائفي في لبنان تعميقه.
السيناريو الثالث: هدنة طويلة الامد:
بموجب تطبيق قرار 1701 ونشر قوات اليونيفيل على الحدود اللبنانية، ويكون ذلك بانسحاب حزب الله ثمانية كيلومترات إلى خلف الليطاني وتحقيق أمن واستقرار الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة على غرار 2006 وذلك من أجل تصدير الازمات الداخلية لدى الطرفين المتصاعدة على خلفية الاحتقان والتوترات الداخلية، نتيجة الانقسامات السياسية والامنية والعسكرية التي تفتك بالطرفين اللبناني والإسرائيلي. ما يدفع إلى تحسن نسبي في الاستقرار الأمني، وتقليل التوترات على الحدود، واستعادة بعض الثقة الدولية في الاقتصاد اللبناني.
السيناريو الرابع: اتفاقيات سلام شاملة:
إن خيار تطبيق هذه الاتفاقيات مناط بمن سوف يكسب المعركة وكيفية ادارة الصراع والمخرجات التي سوف تتوصل إليها الأطراف الدولية والإقليمية أي الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا وإيران وحزب الله في معادلة الصراع الإقليمي، ونتائج المفاوضات التي سوف ترسم في فلسطين، والخاصة بمرحلة ما بعد حرب غزة ومستقبل حماس وإسرائيل. فإذا انتصرت حماس كحركة مقاومة ضد الاحتلال، فسوف يتوقف موضوع السلام واتفاقيات التطبيع، وسوف يتم الحديث حول قوى تحررية جديدة في المعادلة، أما إذا خسرت حركت المقاومة الرهان وانتصرت إسرائيل في حربها، فسوف تذهب المنطقة نحو تغيرات جديدة ومشروع شرق أوسطي جديد يختلف عما سبق، ويقوم على شرعنة إسرائيل والتعامل الاقتصادي والتجاري معها، مما يساهم بتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي، وجدذب الاستثمارات الدولية، وتحسين الوضع الاجتماعي في لبنان، من وجهة نظر البعض.
خاتمة
يتطلب مستقبل لبنان اتخاذ قرارات مدروسة لتجنب التصعيد مع إسرائيل، من أجل تعزيز الاستقرار الداخلي، ودعم أي نشاط يقوم على التعزيز الدبلوماسي والاصلاحات الاقتصادية يمكن أن يساهم بكسب تأييد ودعم المجتمع الدولي للبنان وذلك عبر التنمية المستدامة، وإعادة الإعمار وتوفير فرص كبيرة لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
كما يتعين على القادة اللبنانيين العمل على تعزيز الوحدة الوطنية وتبني سياسات دبلوماسية واقتصادية تضمن مستقبلًا أفضل للبلاد، لأن التجربة اللبنانية أثبتت أنها غير قادرة على حل أزماتها دون الاستعانة بالخارج سواء لجهة وقف النزاع مع حزب الله أو انتخاب رئيس للجمهورية، بفعل شدة الانقسامات التي تعتري الكيان اللبناني.