
يشهد العالم تصاعداً غير مسبوق في حدة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي. فبعد عقود من تبادل تجاري مثمر، دخل الطرفان منذ 2018 في حرب تجارية مفتوحة تبادلا خلالها الرسوم الجمركية والعقوبات التكنولوجية. ولم يبقَ الصراع محصوراً في العلاقات الثنائية، بل تمدد إلى ساحات دولية ضمن استراتيجية أوسع لاحتواء نفوذ الصين. في هذا السياق، كثّفت واشنطن ضغوطها على دول ترتبط ببكين بعلاقات وثيقة، مثل فنزويلا وإيران، لتجفيف مصادر الطاقة والتمويل عنها أو عن حلفائها. في المقابل، تسعى بكين إلى حصر المنافسة في الميدان الاقتصادي حيث تتمتع بميزة نسبية، بينما تفضّل واشنطن دفعها نحو ساحات الردع العسكري حيث تحتفظ الولايات المتحدة بتفوق نوعي. يستعرض هذا المقال عبر ثلاثة محاور: الحرب التجارية-التكنولوجية، وفنزويلا كساحة احتواء، ثم إعادة تفعيل العقوبات الأممية على إيران وصلتها بالتحوط ضد الصين.
أولاً: الحرب التجارية والتكنولوجية بين واشنطن وبكين
بدأ التصعيد في 2018 بفرض واشنطن تعريفات بمئات المليارات على الواردات الصينية، وردّت بكين بالمثل. الهدف الأمريكي المعلن كان تقليص العجز التجاري ووقف ممارسات اعتُبرت غير عادلة مثل نقل التكنولوجيا القسري وانتهاك الملكية الفكرية. وبعد سنوات من المواجهة، ظل العجز التجاري الأمريكي مع الصين كبيراً (نحو 295 مليار دولار في 2024، وهو الأدنى منذ 2009)، وبقيت الصين بين أكبر الشركاء التجاريين لواشنطن مع صادرات أمريكية تفوق 195 مليار دولار في 2024. تكشف هذه الأرقام تشابكاً اقتصادياً عميقاً يصعّب فك الارتباط، ويجعل مسار “إزالة المخاطر” محدود الأثر.
وتجاوزت المواجهة الرسوم إلى التكنولوجيا المتقدمة: قيود أمريكية على تصدير الرقائق والأدوات المتقدمة، وحدود على استثمارات أمريكية في شركات صينية حساسة بذريعة الأمن القومي؛ مقابل إجراءات صينية مضادة شملت تقييد صادرات معادن حيوية لصناعة الشرائح. ورغم ذلك، واصلت الصين توسيع حضورها الصناعي عالمياً فيما يشبه “صدمة الصين” الجديدة في السيارات الكهربائية والألواح الشمسية. وتبين الدراسات أن المستهلكين والشركات الأمريكيين تحملوا قسطاً كبيراً من كلفة الرسوم، وأن سلاسل التوريد لم تُعَد هيكلتها جذرياً بقدر ما أُعيد توجيهها عبر دول وسيطة مثل فيتنام والمكسيك.
على الصعيد العالمي، مدّت الصين نفوذها الاقتصادي خلال العقد الأخير: ازداد تعاون أكثر من مئة دولة معها على حساب الولايات المتحدة، وأصبحت الشريك التجاري الأكبر لعدد واسع من الاقتصادات الصاعدة، مدعومة بمبادرة الحزام والطريق وتمويلات بنيوية ضخمة. في المقابل، ركزت واشنطن على ترسيخ تحالفات أمنية وميزان قوى عسكري، فيما حافظت على تفوق مالي عبر هيمنة الدولار ونظام العقوبات. هكذا تتباين الاستراتيجيتان: بكين تكدّس النفوذ عبر الاستثمار والتجارة، وواشنطن تصون الزعامة بأدوات الأمن والمال معاً.
ثانياً: فنزويلا كساحة في استراتيجية احتواء الصين
تشكل فنزويلا مثالاً واضحاً على تداخل الاقتصاد بالجيوسياسة. تمتلك كاراكاس أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة (نحو 303 مليارات برميل). وقد أدت العقوبات الأمريكية المشددة منذ 2017، وتكثيفها في 2019، إلى هبوط الصادرات وإقصاء فنزويلا عن قنوات التمويل الدولية، ما دفعها للبحث عن زبائن بديلين. برزت الصين كالمشتري الأهم لنفط فنزويلا، إذ اتجه معظم المتبقي من صادراتها إلى آسيا. تُقدّر حصّة الصين بنحو 70% من صادرات 2023، مع اعتماد واسع على وسطاء وواجهات لإخفاء المنشأ وإعادة التوسيم، بما في ذلك التلاعب بإشارات التتبع منذ منتصف 2024 لإظهار الشحنات كأنها من موانئ أخرى.
بالنسبة لواشنطن، تتجاوز المسألة حدود فنزويلا إلى تطويق نفوذ بكين في نصف الكرة الغربي. فبخنق موارد نظام مادورو، تُضيّق الولايات المتحدة على شريان طاقة يغذي شراكات الصين. وفي 2025، فُرضت رسوم عقابية على واردات أمريكية من دول تستورد النفط الفنزويلي، في رسالة ضغط غير مباشرة على مشترين كبار. حقق هذا النهج آثاراً متفاوتة؛ إذ تراجعت بعض المشتريات الآسيوية، فيما واصلت الصين استيراد الخام الفنزويلي بمرونة أعلى. وبحلول سبتمبر 2025 تعافت صادرات فنزويلا نسبياً لتتجاوز 900 ألف برميل يومياً، وإن ظلت دون مستويات ما قبل العقوبات. النتيجة: تحولت فنزويلا إلى إحدى ساحات الحرب الاقتصادية بالوكالة بين واشنطن وبكين.
ثالثاً: إعادة تفعيل العقوبات الأممية على إيران واحتواء الصين
ترى واشنطن في إيران حلقة مهمة ضمن استراتيجية الحد من صعود الصين، بالنظر إلى تشابك المصالح بين طهران وبكين، بما فيها اتفاقية الشراكة الشاملة (2021) وتدفقات النفط المخفّض السعر إلى السوق الصينية. وعليه، فإن تضييق الخناق على صادرات إيران يفكك جزئياً شريان تمويلي يغذي توازنات الصين الطاقية.
في 28 أغسطس 2025 فعّلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا آلية الزناد ضمن قرار مجلس الأمن 2231، ما أعاد سريان حزم عقوبات أممية (حظر سلاح، قيود صاروخية ونووية) اعتباراً من أواخر سبتمبر. رحبت واشنطن ورفضت موسكو وبكين، فبرز انقسام قانوني-سياسي واضح. ورغم أن العقوبات الأممية لا تستهدف الطاقة صراحةً، فإن الولايات المتحدة قد تسعى إلى استثمارها لتشديد الرقابة البحرية على شحنات مرتبطة بإيران تحت ذرائع عدم الانتشار، بما قد يطال ناقلات تابعة لكيانات مصنّفة. يظل نجاح هذا المسار مرهوناً باستجابة دول العبور والموانئ الآسيوية، وبمدى تخصيص موارد بحرية كافية لعمليات الاعتراض.
ورغم القيود، استعادت إيران جزءاً كبيراً من صادراتها عبر شبكات التفاف ومشترين آسيويين—خصوصاً الصين—حيث قدّرت جهات تتبع الشحن صادرات بنحو 1.6 مليون برميل يومياً في 2025، وهو أدنى من مستوى ما قبل 2018، لكنه أعلى بثلاثة أضعاف من ذروة “الضغط الأقصى” في 2020–2021. عملياً، قد تمنح العقوبات المعاد تفعيلها الصين فرص خصومات إضافية، حتى وهي تهدف إلى إضعاف هذا الشريان ذاته.
خاتمة
يتجاوز الصراع الأمريكي-الصيني ثنائية الرسوم والعقوبات إلى معركة على شكل النظام الدولي لعقود مقبلة. توظف واشنطن حزمة أدوات من التجارة إلى التكنولوجيا والعقوبات العابرة للحدود، وتضغط على حلفاء بكين الطاقيين لتقليص هوامش مناورتها. في المقابل، توسّع بكين نفوذها عبر الاستثمار والتجارة وربط الاقتصادات الناشئة بسلاسلها، مع تجنّب الانجرار إلى سباق تسلح مباشر تستنزف فيه أمام التفوق النوعي الأمريكي—مع إبقاء رسالة ردع عسكري متنامية تحسباً لسيناريوهات أسخن.
ويقف العالم أمام مفترق بين صراع صفري يستدعي أشباح الحرب الباردة وربما مواجهة ساخنة، وبين تعايش تنافسي يضبطه إطار قواعدي يحدّ من الكلفة على الاقتصاد العالمي. لم يُحسم الخيار بعد، لكن مسار الشهور والسنوات المقبلة—اقتصادياً وطاقوياً وبحرياً—سيحدد ما إذا كانت المنافسة ستبقى “باردة” في جوهرها أم تتجه إلى سخونة استراتيجية أوسع