
لم يؤدِّ التصعيد العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل، بما في ذلك استهداف واشنطن لمواقع نووية إيرانية بضربات جوية في يونيو الماضي إلى إنهاء الجدل حول برنامج طهران النووي. فعلى الرغم من الأضرار البالغة التي ألحقتها تلك الضربات بمنشآت التخصيب الإيرانية، لا يزال الخلاف الإستراتيجي حول النووي الإيراني مستعراً. إيران من جانبها تؤكد وبشدة أن تخصيب اليورانيوم حق سيادي غير قابل للمساومة في أي مفاوضات مقبلة، وتعتبره خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. في المقابل، ترى إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي تعتبر أن الضربات العسكرية حسمت مؤقتاً الجانب العملي من النووي، أنه يجب طرح كافة الملفات الخلافية الأخرى على طاولة المفاوضات. وتشمل شروط واشنطن المعلنة إلزام إيران بوقف كامل للتخصيب على أراضيها، وتقييد برنامجها الصاروخي (بما يضمن عدم تجاوز مدى صواريخها 500 كيلومتر حفاظاً على أمن إسرائيل)، إضافة إلى وقف دعمها للجماعات المسلحة الحليفة لها في المنطقة. تلك المطالب الأمريكية الشاملة تصطدم بالثوابت الإيرانية، خاصة وأن طهران رفضت مسبقاً فكرة التخلي عن صواريخها أو نفوذها الإقليمي الذي تعتبره جزءاً من عقيدتها الدفاعية وصمام أمان لأمنها الوطني والإقليمي.
أولاً: الضربات العسكرية والخطوط الحمراء النووية
شكّلت الحرب القصيرة في يونيو، التي اندلعت إثر ضربات إسرائيلية تلتها غارات أمريكية استهدفت ثلاث منشآت نووية إيرانية هي نطنز وأصفهان وفوردو، نقطة تحول خطيرة في النزاع، لكنها لم تحسم الجدل النووي. فالولايات المتحدة وإسرائيل اعتبرتا أن توجيه ضربة عسكرية للبنية التحتية النووية الإيرانية أزال خطر اقتراب طهران من عتبة السلاح النووي. ومع ذلك، سارع المسؤولون الإيرانيون إلى التأكيد أن حق إيران في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية “حقٌّ أصيل وغير قابل للإلغاء” وأن طهران لن تتخلى عنه مهما كانت الضغوط. وقد اعترف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجيبأن بلاده أوقفت عملياً التخصيب حالياً فقط لأن منشآتها تضررت بفعل الهجمات الجوية، وليس تراجعاً عن مبدأ التخصيب نفسه. في المقابل، وضعت واشنطن خطوطها العريضة لأي تفاوض جديد، معلنةً أن المطلوب هو وقف كامل للتخصيب على الأراضي الإيرانية، إلى جانب كبح برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني ووقف دعم طهران لوكلائها الإقليميين. هذه الشروط الأمريكية تأتي مدفوعةً باعتقاد إدارة ترامب بأن الجانب النووي تمت معالجته عسكرياً في يونيو، وبالتالي حان الوقت لمعالجة مصادر التهديد الأخرى، فواشنطن تربط بين مدى الصواريخ الإيرانية وأمن إسرائيل (في إشارة إلى ضرورة حصر مدى الصواريخ ضمن نطاق 500 كم لضمان عدم بلوغها العمق الإسرائيلي)، كما تشدد بعد حرب غزة الأخيرة على ضرورة كفّ يد إيران عن تمويل وتسليح الجماعات من غير الدول مثل حزب الله والحشد الشعبي والحوثيين. غير أن طهران ترفض هذه الإملاءات جملةً وتفصيلاً وتعتبرها تجاوزاً لخطوطها الحمراء؛ إذ أعلن قادتها مراراً أن الصواريخ والملف الإقليمي، إلى جانب حق التخصيب، مسائل غير قابلة للتفاوض. هذا التباعد الحاد في المواقف، بين إيران المتمسكة بخياراتها السيادية وواشنطن المصرة على توسيع نطاق التفاوض، أبقى الملف النووي رهينة شد وجذب حتى بعد المواجهة العسكرية. وبات واضحاً أن الضربات الجوية، على شدتها، لم تقنع إيران بالتنازل عن مبادئها النووية أو الدفاعية؛ فالإيرانيون يرون أن برنامجهم النووي يمكن إعادة ترميمه، أما التخلي عن التخصيب تماماً فهو أمر مرفوض قطعيا. لذلك تستمر الأزمة دون حل جذري، فيما يتبادل الطرفان التحذيرات، ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توعدا بأنهما لن يترددا في ضرب إيران مجدداً إذا استأنفت التخصيب المحظور، بينما توعدت طهران برد ساحق على أي عدوان جديد، مؤكدة أنها لن ترضخ لمنطق الإملاء بالقوة.
ثانيا: استراتيجية إيران: التجميد المتبادل وتمضية فترة ترامب
في قراءة هادئة للمزاج الإيراني، يتضح أن طهران اختارت اعتماد استراتيجية النفس الطويل في مواجهة ضغوط إدارة ترامب. فالإيرانيون يدركون أن أهداف واشنطن القصوى غير قابلة للتحقق حالياً دون حرب شاملة، ولذا يفضلون تمرير الوقت المتبقي من ولاية ترامب عوض الدخول في صفقة خاسرة بشروط أمريكية. وتأخذ هذه الاستراتيجية شكلين محتملين كلاهما يقوم على مبدأ “التجميد مقابل التجميد“.
يعكس الرفض الإيراني المستمر للشروط الأمريكية لبدء التفاوض، ثقة إيران بأنها قادرة على الصمود اقتصادياً دون تلك التنازلات الكبرى. فبالرغم من العقوبات، تمكنت طهران من استعادة قدر كبير من عائدات النفط عبر تصدير كميات تقارب ما كانت تصدره خلال مرحلة الاتفاق النووي التي تم فيها رفع العقوبات على قطاع النفط؛ إذ تشير التقديرات الحديثة إلى أن صادرات النفط الإيرانية عادت لتناهز 2.2 – 2.3 مليون برميل يومياً في خريف 2025، وهو مستوى يقارب فترة ما قبل 2018.
هذا الإنجاز تحقق عبر شبكات تصدير بديلة وتعاون مع مشترين رئيسيين (على غرار الصين) مما جعل العرض الأمريكي برفع جزئي للعقوبات أقل إغراءً لإيران. بناءً عليه، لا تجد إيران دافعاً كافياً للتنازل في ملف الصواريخ أو نفوذها الإقليمي مقابل مكاسب اقتصادية محدودة أو مؤقتة، خاصة وأن برنامجها الصاروخي يحظى بإجماع داخلي كركيزة للأمن القومي. وقد أوضح ذلك كبار رجال الدين المقربين من النظام والسياسيين المسؤولين عن الملفات الكبرى حين أكدوا بأنّ إيران لن تقبل أي نقاش يمسّ قدراتها الصاروخية أو دفاعاتها أو دورها الإقليمي.
ضمن هذه الاستراتيجية، تراهن طهران على عامل الوقت، فهي تفضّل تجميداً متبادلاً للأزمة حالياً بدلاً من اتفاق سيئ من منظورها. تمضية ما تبقّى من عهد ترامب بدون صدام كبير يُعتبر هدفاً إيرانياً بحد ذاته، على أمل أن يحمل المستقبل ظروف تفاوضية أفضل. وفي الأثناء، تحاول إيران تعزيز وضعها الدفاعي وترميم منشآتها النووية بهدوء لإبقاء أوراق الضغط بيدها (وقد تعهدت فعلياً بإعادة بناء ما دُمّر “أقوى من السابق”). إنها سياسة حافة الهاوية بحسابات دقيقة قامة على: “لا تصعيد نووي من طرف إيران حالياً لتفادي الذريعة الأمريكية للإقدام على ضربة أخرى، وفي المقابل تستفيد طهران من عدم رغبة واشنطن (ولا إسرائيل) بالانخراط في حرب شاملة طويلة الأمد قبل اتضاح المشهد السياسي الأمريكي المقبل“.
ثالثا: حسابات طهران للقيادة الأمريكية القادمة
تعوّل إيران استراتيجياً على التغيير المحتمل في واشنطن بعد انتهاء ولاية ترامب. فصناع القرار في طهران يقرأون المشهد الأمريكي ويضعون سيناريوهات متفائلة نسبياً للمرحلة التالية، سواء جاء إلى البيت الأبيض جمهوري ذو نزعة انكفائية مثل نائب الرئيس الحالي “جاي دي فانس“ أو رئيس ديمقراطي من الحزب الآخر. في الحالة الأولى، ترى طهران أن فانس يمثل تيار “عدم التدخل” الذي يدعو إلى انكفاء أمريكا داخل حدودها وإنهاء المغامرات الخارجية. هذا السياسي، الذي برز بخطاب شعبوي محافظ، معروف بأنه غير متحمس لخيارات الحرب المباشرة؛ حتى أنه صرّح بوضوح ذات مرة بأنه: “لن يوافق إطلاقاً على تفويض عمل عسكري ضد إيران” محذراً من خطورة التصعيد غير المحسوب. مثل هذه المواقف توحي لإيران بأن إدارة يقودها فانس قد تتجنب الخيار العسكري وتميل إلى صفقة محدودة تحفظ ماء الوجه، تقتصر على ضمان عدم امتلاك إيران سلاحاً نووياً دون السعي لفرض قيود شاملة على منظومتها الصاروخية أو دورها الإقليمي أو إجبارها على وقف التخصيب بشكل كامل. أما السيناريو الثاني، أي عودة ديمقراطي إلى الرئاسة، فهو أيضاً تطور مرحَّب به إيرانياً إلى حد كبير. فالنهج الديمقراطي التقليدي حيال إيران (كما عكسته سياسات أوباما وبدرجة ما بايدن) يركز على الحل الدبلوماسي وتجنب الحروب. ومن المرجح أن أي رئيس ديمقراطي جديد سيعيد إحياء مسار تفاوضي قريب من روح الاتفاق النووي لعام 2015، أي صفقة تقيّد البرنامج النووي الإيراني مقابل رفع عقوبات، من دون أن تشمل بالضرورة برنامج الصواريخ أو دعم طهران لحلفائها الإقليميين. مثل هذه الصفقة المحدودة ستكون مقبولة لإيران لأنها لا تمسّ عناصر قوتها الردعية (الصواريخ) وأذرع نفوذها الإقليمية، بل تركز فقط على ضمانات سلمية برنامجها النووي. لذا لا يُخفي المسؤولون الإيرانيون تفضيلهم الضمني لوصول قيادة أمريكية أقل تشدداً حيالهم؛ وقد ألمح البعض في طهران إلى أن التوصل لاتفاق مُرضٍ مع واشنطن ممكن إذا كفّت عن محاولة تضمين الملفات غير النووية على طاولة المفاوضات.
إيران تعتبر قدراتها الصاروخية جزءاً من عقيدتها الدفاعية وسلامتها الوطنية والخارجية، أي أنها خط أحمر تماماً. وكذلك دعمها لحلفائها الإقليميين ترى فيه عمقاً استراتيجياً لمشروعها الأمني لكنهها أقل تشدداً فيه ويمكن التفاوض على ملفات ضيقة فيه. وعليه، فإن أي تفاوض مستقبلي لكي ينجح، من المنظور الإيراني، يجب أن يقتصر على الملف النووي وضمانات عدم انتشار السلاح النووي، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية؛ دون المساس بالصواريخ. طهران تأمل أن الرئيس الأمريكي القادم (أياً كان توجهه) سيتبنى مقاربة أكثر واقعية تدرك هذه الخطوط الحمراء، سواء بدافع الرغبة في تجنب حرب مكلفة (كما هو متوقع من أي إدارة عقلانية بعد تجربة حرب غزة وتداعياتها الإقليمية)، أو بدافع الانعزال وتركيز الجهود داخلياً (كما ينادي بذلك جناح فانس الجمهوري). في كلتا الحالتين، ترى إيران فسحة لاحتمال تخفيف الضغط عنها وإمكانية إعادة فتح قنوات الدبلوماسية للوصول إلى تفاهم يضمن مصالح الطرفين دون إذعان أحادي من جانبها.
خاتمة
كشفت التطورات الأخيرة أن الحسم العسكري النسبي في يونيو لم ينهِ صراع الإرادات بين طهران وواشنطن. فإيران خرجت من تلك الجولة مصابة في قدراتها النووية، لكنها ليست منكسرة سياسياً ولا زالت متمسكة بحقوقها الجوهرية. وفي الوقت نفسه، أثبتت الضربات الأمريكية والإسرائيلية أن الخيار العسكري حاضرٌ على الطاولة إذا ما استشعرت واشنطن وتل أبيب محاولة إيرانية للاقتراب من العتبة النووية أو ترميم منشآت تخصيب اليورانيوم، وهو ما يضع سقفاً زمنياً غير معلن لتحركات طهران. بناءً على ذلك، يُرسي الطرفان حالة من الردع المتبادل المؤقت، فإيران تمتنع مرحلياً عن خطوات تصعيد نووي كبيرة، والولايات المتحدة تُحجم عن توسيع الحرب المباشرة، في هدنة ضمنية قد تستمر إلى نهاية عهد ترامب. هذه الهدنة المتوترة تُدار استراتيجياً بانتظار تغير المعطيات السياسية .وطهران في قلب هذه المعادلة تمارس استراتيجية الصمود والمراوغة الزمنية؛ فهي تحاول شراء الوقت بلا تنازلات جوهرية، مراهنةً على أن العام 2025 وما يليه قد يحمل تغيراً في واشنطن يخفف ضغوط المواجهة الشاملة.
بطبيعة الحال، تنطوي هذه المقاربة على مخاطر، فأي خطأ في الحسابات، كأن تستأنف إيران التخصيب بشكل مفاجئ أو تُقدم إسرائيل على ضربة أحادية، قد يفجّر مواجهة أوسع قبل أوانها. كذلك فإن استمرار العقوبات الخانقة يبقى عامل ضغط على طهران قد يؤدي إلى اضطرابات داخلية أو إنهاك اقتصادي مع مرور الوقت، مما قد يُضعف موقفها التفاوضي. ومع ذلك، تُظهر القيادة الإيرانية تصميمها على عدم تقديم تنازلات تحت التهديد، وتُعوّل في المقابل على صمود شعبها والتكيّف مع العقوبات إلى أن تنجلي مرحلة المواجهة الحالية.
إن الاستراتيجية الإيرانية العميقة الآن هي لعبة انتظار مدروسة، هي انتظار تبدّل في موازين القوى الدولية، وانتظار لحظة مواتية تفاوضياً تستطيع فيها طهران انتزاع اتفاق يحفظ ماء وجهها ويصون مصالحها الأساسية. وحتى يحين ذلك، ستبقى الأزمة النووية الإيرانية تراوح مكانها فلا حرب شاملة تحسمها ولا اتفاق نهائي يطوي صفحتها، بل تجميد ثنائي مؤقت على فوهة بركان.