منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والاقتصاد الأميركي، يمر بمشكلات وأزمات اقتصادية، أثرت على تموضع أميركا كقوة وحيدة تدير الاقتصاد العالمي، حيث ظهرت قوى جديدة، تبشر بإرهاصات نظام اقتصادي عالمي جديد، متعدد الأقطاب.
ولكن رغم هذه المشكلات والأزمات الاقتصادية، التي مرت بها أميركا، وضعف دورها إلى حد ما، كقوة اقتصادية وحيدة، ومتفردة بقيادة الاقتصاد العالمي منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، إلا أن ما يحدث في أميركا لايزال له تأثيراته الكبيرة والمباشرة على صعيد الاقتصاد العالمي، من أسواق المال وسوق العملات وكافة مظاهر النشاط الاقتصادي.
وأبرز الدلالات على ذلك التصريح الأخير لـ “جيروم باول” رئيس المجلس الفيدرالي الأميركي في 23 أغسطس 2024، “أن خفض سعر الفائدة سوف يأتي في سبتمبر 2024، وقد حان الوقت لمراجعة السياسة النقدية” الذي جعل كافة الأسواق تعيد حساباتها، لما سترتب على هذا التخفيض من آثار.
وهو ما يؤكد المقولة المتداولة منذ عقود “إذا عطس الاقتصاد الأميركي ارتعدت فرائس الاقتصاد العالمي” فقد رأينا ما شهدته أسواق العملات بعد تصريحات بأول، من تراجع قيمة الدولار، وكذلك ما حدث في أسواق المال “البورصات” من تحسن ملحوظ في أدائها، بسبب أن البورصات ستكون مجال أفضل لتحقيق عوائد أعلى من أسعار الفائدة المنخفضة.
على الرغم من أن بأول صرح بأن تخفيض سعر الفائدة سوف يأتي في سبتمبر، وأنه حان الأوان لإعادة النظر في السياسة النقدية، إلا أنه لم يتطرق إلى النسبة المتوقعة أن يُتخذ قرارًا بشأنها، وبالتالي ذهبت التكهنات، لتتوقع أن تكون النسبة ما بين 0.25% – 0.75%.
والجدير بالذكر أن رفع سعر الفائدة في أميركا بدأ في الارتفاع منذ مارس 2022، ليتحرك من 0.25% ليصل حاليًا إلى نحو 5.5%، وهو سعر الفائدة الأكبر في الاقتصاد الأميركي منذ مطلع الألفية الثالثة.
ولكن يبقى السؤال، حول مدى تصرف السياسة النقدية الأميركية، تجاه سعر الفائدة، هل سنكون أمام سلسلة من الانخفاضات المتتالية؟ أم سيكون لمرة واحدة؟..الإجابة على هذا السؤال ستكون مرهونة بمؤشرين مهمين، وهم معدل التضخم السائد، وكذلك معدل البطالة المتحقق.
فإذا استمر معدل التضخم في الانخفاض أو على الأقل، الاستقرار على ما هو عليه الآن، فسيكون من السهل الاستمرار في تخفيض سعر الفائدة -الجدير بالذكر أن معدل التضخم بأميركا 2.9% خلال يوليو 2024-، أما أذا تزايدت معدلات التضخم فسيلجأ الفيدرالي الأميركي إلى تثبيت سعر الفائدة أو العودة لرفعه مرة أخرى، حسب النسبة التي سيزيد بها معدل التضخم.
وعلى ما يبدو أن أميركا قد أدارت سوق النفط خلال الفترة الماضية، لتجعله تحت سقف 80 دولار، لتتمكن من السيطرة على التضخم، الذي انخفض من 9% بعد أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير2022، إلى 2.9% بنهاية يوليو 2024.
ولكن هل لدى أميركا من الأدوات التي تمكنها من السيطرة على أسعار النفط، لتكون في الحدود الحالية، عندما تتخذ قرارها بخفض سعر الفائدة؟
وتفيد البيانات الرسمية الأميركية أن معدلات البطالة ارتفعت في يوليو 2024، إلى نسبة 4.3% بعد ان كانت 4.1% في يونيو من نفس العام، وسوف يرتهن قرار خفض سعر الفائدة، بمدى الركود المتوقع في الاقتصاد الأميركي ودلالاته السلبية على معدل البطالة.
وعادة ما تتجه السياسة النقدية في حالة الركود إلى خفض سعر الفائدة، لتشجع على الاقتراض، وبالتالي زيادة معدلات الاستهلاك والاستثمار، مما يحرك الأسواق، ويساعد على إيجاد فرص عمل جديدة.
ثمة عدة تأثيرات متوقعة على اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط، لعدة اعتبارات أولها، أن المنطقة تعتمد على النفط المقوم بالدولار، وفي حالة خفض أميركا في أوائل النصف الثاني من سبتمبر 2024، سنكون أمام احتمالات كبيرة بزيادة سعر النفط، لأن المضاربين، يتجهون بشكل سريع من الاحتفاظ باستثمارات في أسعار الفائدة إلى المضاربة على النفط، ولكن سوف يتوقف ذلك على حالة الطلب على الطاقة بشكل عام، ومن المعلوم أن أسعار النفط على مدار الشهور الستة الماضية تشهد حالة من المراوحة، ما بين 75 و80 دولار للبرميل.
وعلينا عند قراءة تأثير انخفاض سعر الفائدة على منطقة الشرق الأوسط، أن نأخذ في الاعتبار الأوضاع السياسية الملتهبة التي تعيشها المنطقة منذ أكثر من 10 أشهر، من حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة، فبقاء حالة التوتر في المنطقة، واحتمالات توسع دائرة الحرب لتخرج عن نطاق غزة، سيكون من شأنه رفع أسعار النفط، فالمنطقة تمد السوق العالمي بنحو 30% من النفط والغاز.
والأمر المهم بالنسبة لاقتصاديات الشرق الأوسط، وبعيدًا عن التوترات السياسية في المنطقة، فإن اقتصاديات المنطقة (الدول العربية + إيران+ تركيا) مرتبطة بالدولار، وبالتالي فأي تغيير في السياسة النقدية لأميركا، ومن بينها سعر الفائدة، سوف يفرض نفسه، لتتخذ هذه الدول قرارات مماثلة بتخفيض سعر الفائدة، وهو ما لمسناه على مدار الفترة الماضية، سواء في حالة رفع أو خفض سعر الفائدة في أميركا.
وهنا لابد أن نشير إلى حالتين ستكونان أمام تحد صعب، فيما يخص تخفيض سعر الفائدة لو تبنت أميركا هذا القرار، وهما مصر وتركيا.
فكلا البلدين يعتمد على الأموال الساخنة بنسبة كبيرة، من أجل محاولات استقرار احتياطي النقد الأجنبي أو سعر الصرف، وفي حالة اتخاذ مصر أو تركيا قرارات تتعلق بتخفيض سغر الفائدة، تماشيًا مع السياسة النقدية الأميركية، فستتجه الأموال الساخنة إلى الخروج من تركيا ومصر، بحثًا عن عوائد أفضل.
وكما هو معلوم الآن أن كل من مصر وتركيا بهما حالة من التوتر فيما يتعلق باحتياطيات النقد الأجنبي، وكذلك أسعار الصرف، ففي تركيا تنخفض الليرة بشكل شبه يومي أمام العملات الأجنبية، بسبب حالة عدم الثقة لدى الأتراك في العملة المحلية، وتوجههم إلى الاحتفاظ بمدخراتهم من خلال العملات الأجنبية أو الذهب.
وفي مصر بدأت الأمور تشير مرة أخرى إلى وجود مشكلات في توفير العملات الأجنبية، وعلى رأسها الدولار، وعودة إلى تنشيط السوق السوداء، فقد وجه البنك المركزي المصري خلال الأيام الماضية، بأن تتخذ البنوك من خلال مجالس إدارتها تحديد ما تراه مناسبًا لحدود السحب اليومي من النقد الأجنبي، بالنسبة للأفراد والشركات، وهو ما فُهم منه، أن ثمة مشكلة تتعلق بتوفير النقد الأجنبي لدى البنوك.
أما دول الخليج فلديها من الأرصدة النقدية ما يكفيها ويفيض، بسبب الصادرات النفطية، ولكنها ستتأثر بتخفيض سعر الفائدة في أميركا في أمرين، الأول أن انخفاض سعر الفائدة سوف يؤثر على القيمة الحقيقية للدولار، ويضعفه أمام العملات الأخرى، وهو ما يعني انخفاض القيمة الحقيقية للأصول المملوكة لدول الخليج المقومة بالدولار، سواء في الداخل أو الخارج.
الأمر الثاني بالنسبة لدول الخليج، أن انخفاض سعر الفائدة، سوف يؤثر على استثماراتها المودعة في سندات الخزانة الأميركية، أو في البنوك بأوروبا وأميركا أو في الخارج بشكل عام، لأن انخفاض سعر الفائدة سوف ينسحب على باقي الأنشطة المالية المنخفضة.
ولن يعوض خسائر الدول الخليجية إلا أن تتجه أسعار النفط إلى الارتفاع، بمعدلات تفوق الخسائر المتحققة من انخفاض سعر الفائدة.
وفي حالة إيران، فهي في حالة اختناق اقتصادي ومالي منذ العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ عام 2018، ومن أبرز هذه العقوبات ما يتعلق بالجوانب المالية وحركة بنكها المركزي، وبالتالي فهي تعاني بشكل دائم من انخفاض عملتها، وقلة مواردها من العملات الأجنبية، ومن هنا فتعاطيها مع تخفيض سعر الفائدة، سيكون محصورًا في انخفاض القيمة الحقيقية لعوائد صادراتها النفطية، سواء الصادرات الرسمية أو غير الرسمية، والمعلوم أن الإيرادات النفطية، تمثل لإيران مكونًا مهمًا على صعيد الإيرادات العامة للدولة.
الحقيقة الثابتة، هي أن أميركا، تؤثر من خلال سياساتها المالية والنقدية بشكل كبير على مقدرات الاقتصاد العالمي، وفي الغالب الأعم، تجيد أميركا تصدير مشكلاتها للعالم، كما أنها تحل مشكلاتها على حساب باقي اقتصاديات العالم.
فحينما رفعت سعر الفائدة، كبدت أميركا الدول الصاعدة والنامية تكلفة كبيرة تتعلق بالتمويل من أسواق الديون أو من أسواق المال، كما أنها أربكت خطط الحكومات في الدول النامية والصاعدة فيما يتعلق بإدارة أوضاع الديون العامة بها.
وثمة تساؤل مهم، يتعلق بتحرك السياسية النقدية الآن، لتخفيض سعر الفائدة، هل له علاقة بالأوضاع الداخلية، وإجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية عام 2024؟، أم أن الأمر يتعلق بالصراع مع روسيا والصين، وأن الساحة الاقتصادية سوف تشهد المزيد من أدوات الصراع، من أجل إهدار الثروات المتراكمة لدى بعض الدول، مثل الصين والهند وأعضاء تجمع دول البريكس بشكل عام؟
عادت أزمة المديونية لتطل برأسها على الساحة الدولية، مرة أخرى منذ عدة سنوات قليلة مضت، وبخاصة بعد أزمة كورونا، وقد حظر صندوق النقد الدولي غير مرة، من أمر الديون العامة، وتفاقم مشكلاتها، وأن تكلفة الديون أصبحت تحد من قدرة الدول النامية على الوفاء بمتطلبات التنمية.
ومن شأن تخفيض سعر الفائدة في أميركا، أن يقود أسعار الفائدة في العالم لنفس الاتجاه، وهو ما يعني زيادة اتجاه الدول للاقتراض، وتكرار تجربة الاقتراض الرخيص التي استمرات على مدار ما بعد الأزمة المالية العالمية 2008، وحتى وقوع كارثة جائحة كورونا 2020.
وحسب تقرير الأونكتاد لعام 2023، فإن الدين العام (الحكومي) على مستوى العالم بلغ 97 تريليون دولار بنهاية 2023، بينما تقرير معهد التمويل الدولي بنهاية الربع الأول من عام 2024 قدر الديون العالمية بنحو 315 تريليون دولار، وتتضمن ديون الحكومات، وقطاع الأعمال، والقطاع العائلي.
وثمة مخاوف من قبل المؤسسات المعنية بالتنمية من تبعات تفاقم قضية الديون، لما لها من انعكاسات ظهرت في العديد من الدول، من خلال زيادة أعباء خدمة الديون عن المخصصات المرصودة بالميزانيات العامة للدول لقطاعات مهمة، وهي التعليم والصحة.
وهنا لابد من الإشارة إلى بعض دول منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة الدول العربية، حيث تتراكم الديون العامة، وتمثل عائقًا حقيقيًا لوضعها المالي والاقتصادي، وعلى رأس هذه الدول مصر، كما أن ثمة ملاحظة مهمة تتعلق بالمملكة العربية السعودية، من حيث اتجاهها بشكل توسعي في مسألة الديون المحلية والخارجية، مما قد يجعل من قضية الديون أزمة فيما بعد.
ففي الحالة السعودية، تم التوسع في الاقتراض الخارجي بعد توصيات صندوق النقد الدولي في عامي 2015 و2016، أي بعد حلول أزمة انهيار أسعار النفط في منتصف 2014، وقد يكون انخفاض سعر الفائدة في السوق العالمي -بعد قرار أميركا منتصف سبتمر القادم- مشجعًا للمملكة السعودية في الاقتراض من الخارج.
ختامًا: نتمنى هذه المرة، أن تمتلك الحكومات بمنطقة الشرق الأوسط، استراتيجيات للتعامل مع قرار أميركا المنتظر بشأن خفض سعر الفائدة، وما يترتب عليه من أثار سلبية أو إيجابية.