الاعتراف بالدولة هو التسليم من جانب الدول القائمة بوجود هذه الدولة وقبولها كعضو في الجماعة الدولية، وهو إجراء مستقل عن نشأة الدولة، وتكمن أهمية في أن الدولة لا تتمكن من ممارسة سيادتها في مواجهة الدول الأخرى ومباشرة حقوقها داخل الجماعة الدولية إلا إذا اعترفت هذه الجماعة بوجودها، والاعتراف عمل تقر بمقتضاه دولة أو مجموعة من الدول بتنظيم سياسي في إقليم معين قادر على الوفاء بالتزاماته وفقاً لقواعد القانون الدولي، ولا يجوز الاعتراف بالدولة إلا إذا استوفت جميع عناصرها وتهيأت لها سُبل الوجود كدولة.
وهناك اتجاه في الفقه القانوني الدولي يقول إن الدولة تصبح شخصاً دولياً عن طريق الاعتراف فقط، أي أن هذا الاعتراف يخلق الشخصية الدولية للدولة الجديدة وهو الذي يُعطيها صفة العضوية في الجماعة الدولية وبدون هذا الاعتراف لا تكون لإعمالها أي صحة أو نفاذ قانوني، ويذهب إلى هذا الرأي أنصار “نظرية الاعتراف المنشئ”، في مقابل نظرية أخرى تسمى “نظرية الاعتراف الكاشف”، ومفادها أن اعتراف الدول لا قيمة له من الناحية الواقعية إذا لم تتوافر لدى الدولة محل الاعتراف جميع عناصر الدولة وهذه النظرية التي أخذ بها معهد القانون الدولي في دورته المنعقدة في بروكسل عام 1938 والعديد من قرارات محكمة العدل الدولية.
أولاً: تطور الاعتراف الدولي بفلسطين
في عام 1974 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يعترف بحق الشعب الفلسطيني في الحصول على السيادة، واعترفت الجمعية بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني، ومنحتها صفة مراقب في الأمم المتحدة.
وفي 15 نوفمبر عام 1988 أعلن المجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في الجزائر، قيام دولة فلسطين، وكان من أوائل الدول التي اعترفت بفلسطين عام 1988 السعودية ومصر الجزائر واليمن والإمارات وتونس وتركيا وجيبوتي والبحرين والعراق والأردن والكويت وليبيا والمغرب والسودان وسلطنة عمان وقطر وباكستان وروسيا وموريتانيا وإيران والصين وكوريا الشمالية وكوبا وأوكرانيا، ثم اعترفت بها لبنان عام 2008، وسوريا في 2011.
وفي 29 نوفمبر 2012 أصبحت فلسطين “دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة”، بعد التصويت على قرار 67/19 بتأييد أغلبية 138 دولة مقابل اعتراض 9 دول، وامتناع 41 دولة عن التصويت، ثم حصلت “فلسطين” في نفس العام على عضوية اليونسكو، واعترفت بها السويد عام 2014، والفاتيكان عام 2015.
ورغم استخدام الولايات المتحدة حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي في 18 أبريل/نيسان 2024 لمنع صدور قرار يفتح الباب أمام منح دولة فلسطينالعضوية الكاملة في الأمم المتحدة، فإن الجمعية اعتمدت في 10 مايو/أيار قرارا بأحقية فلسطين لهذه العضوية في الأمم المتحدة بأغلبية 143 صوتًا، وامتناع 25 صوتاً عن التصويت، ونص القرار على دعم طلب فلسطين للحصول على العضوية الكاملة، ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب، وأكد القرار قناعة الجمعية العامة بأن دولة فلسطين مؤهلة تماما لعضوية الأمم المتحدة وفقا لميثاقها، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وأن تكون له دولته المستقلة.
وفي 22 مايو 2024، أعلنت كل من النرويج وايرلندا وإسبانيا اعترافها بالدولة الفلسطينية، وفي 4 يونيو 2024، أصدرت وزارة الخارجية السلوفينية بيانا اعترفت فيه رسميا بأن فلسطين دولة مستقلة وذات سيادة، وفي خطاب موجه إلى الشعب الفلسطيني، أكدت وزيرة الخارجية “تانيا فاجون” أن قرار سلوفينيا “هو رسالة أمل وسلام“، وأضافت: “نحن نؤمن بأن حل الدولتين فقط هو ما يمكن أن يؤدي إلى سلام دائم في الشرق الأوسط، كما صوت 52 من أصل 90 عضوا في برلمان سلوفينيا لصالح قرار الاعتراف، ليرتفع عدد الدول التي تعترف بفلسطين إلى 148 دولة من إجمالي 193 عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
وبهذا الاعتراف الرباعي يرتفع عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تعترف بفلسطين إلى 12 دولة هي: السويد، الفاتيكان، بلغاريا، قبرص، التشيك، المجر، بولندا، رومانيا، النرويج، ايرلندا، إسبانيا، سلوفينيا.
ثانياً: السياقات السياسية للاعتراف الدولي
أحد الدوافع الأساسية لموافقة عدد متزايد من الدول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، هو تداعيات معركة طوفان الأقصى والتي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك عند الكثيرين أنه لا مجال لوقف هذا الصراع دون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ودون الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، من ناحية، ورغبة العديد من دول العالم على معاقبة الكيان الصهيوني على المجازر ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان التي أفرط في القيام بها بعد السابع من أكتوبر، وسقوط عشرات الآلاف من الفلسطينيين بين شهيد ومصاب ومفقود، ونزوح نحو مليون ونصف مواطن فلسطيني من بيوتهم، يؤكد هذه الرغبة تصريح رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيزبأن “رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ليس لديه مشروع سلام لفلسطين”.
لقد لجأت منظمة التحرير إلى إعلان قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 فيما عرفت بوثيقة الاستقلال في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 كمحاولة من الزعيم الراحل ياسر عرفاتلتعزيز دور الانتفاضة التي اندلعت في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، في إطار مسار سياسي يدعو إلى إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتحرر من الأرض الفلسطينية، لذلك تحاول السلطة من خلال هذا التحرك الاستفادة من الدلالة القانونية للاعتراف، والتي تعني حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي كما نصت عليه مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
ولكن هذا الأمر لن يمر عبر مجلس الأمن، ولا يتوقع له ذلك في ظل الفيتو الأميركي، وحيث لا توجد للفلسطينيين دولة قائمة على الأرض فإن الأمر سيظل خاضعا للتفاوض المباشر مع الاحتلال في ظل اختلال موازين القوى بالمنطقة، مع عدم التقليل من الدلالة الرمزية والسياسية التي لا تعني تغييرا على أرض الواقع، وإن كان مهماً من الناحية السياسية حيث يساهم في تآكل الحاضنة السياسية للكيان الصهيوني لدى الرأي العام الغربي، ويعزز من فرص حضور الفلسطينيين وقضيتهم عبر آليات سياسية رسمية في هذه الدول، وتبادل التمثيل الدبلوماسي، بما يساهم في فتح أبواب للحركة سياسيًا وقانونياً.
إن الاعتراف بدولة فلسطين سواء من قبل بعض الدول الأوروبية أو خلال الجلسة العامة للأمم المتحدة، مهم من الناحية المعنوية والرمزية، ولكن على المستوى الفعلي والعملي لن تكون هناك دولة فلسطين، حيث ستمارس الولايات المتحدة الأمريكية حق الفيتو لمنع قيام الدولة، والتصور هنا ليس في إقامة دولة من عدمه لكن أمريكا تنظر للأمر بصفته ضد المصلحة الصهيونية في الاستعمار واحتلال أرض فلسطين كاملة، وأن المطلوب فعليا هو تفكيك النظام العنصري الصهيوني والاعتراف بحق العودة الذي لا يُذكر في قرار الاعتراف ولا يتم التصويت عليه، وحق العودة هو مطلب شرعي وتاريخي وقانوني ونقطة مفصلية في قرار الاعتراف بدولة فلسطين.
ثالثاً: الدلالات القانونية للاعتراف الدولي
وبموجب القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2012 و2024، وتزايد عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية، يمكن الوقوف على عدد من الملاحظات الأساسية حول أهمية هذه القرارات:
1- إن اعتراف المجتمع الدولي بفلسطين يعني أنها بهذه الصفة لها حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة دون أن يكون لها الحق في التصويت، حيث تحضر كل الاجتماعات وتتبادل كافة الوثائق مع الآخرين، ويعامل رئيس السلطة الوطنية كرئيس دولة، وهذا إقرار من المجتمع الدولي بأن إسرائيل هي دولة احتلال.
2- بهذه القرارات تستطيع فلسطين أن تنضم إلى اتفاقيات التجارة الدولية وأن تبرم اتفاقيات ثنائية أو متعددة مع دول أخرى، وهذا له أهمية كبيرة مع وجود اعداد كبيرة لفلسطيني الشتات في دول الخليج وإفريقيا وامريكيا اللاتينية.
3- الاعتراف الدولي بفلسطين يعني أن من حقها بموجب القانون الدولي أن تصبح طرفاً في اتفاقية فيينا، وتتبادل التمثيل الدبلوماسي والقنصلي مع الآخرين بحرية تامة، الأمر الذي يعطي حصانة وامتيازات لبعثاتها ودبلوماسيها في كافة دول العالم مثل الدول كاملة العضوية، ويساهم بالنتيجة إلى رفع تمثيل المكاتب إلى قنصليات وسفارات.
4- أن الاعتراف له أهمية كبيرة على صعيد القضاء الدولي، سواء قضاء محكمة العدل الدولية أو المحاكم الجنائية الدولية، بمعنى أن فلسطين تستطيع أن تقيم دعاوى أمام محكمة العدل الدولية فيما يتعلق ببعض القضايا مثل الاستيطان والجدار الفاصل والمياه والحدود وقضايا اللاجئين، كما أن لها الحق بالانضمام لجمعية الدول الأطراف للمحكمة الجنائية الدولية، وهذا يعني أن لها الحق بملاحقة أي فرد مهما كانت صفته الرسمية أو الفردية أمام المحاكم الجنائية الدولية إذ ثبت ارتكابه أي جريمة دولية خصوصاً الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحاكم الجنائية الدولية مثل جرائم الحرب والعدوان والإبادة الجماعية.
5- أن الاعتراف الدولي يدل على تراجع وضعف تأثير الولايات المتحدة على العالم والدول الأخرى، فلم تعد دول أمريكا اللاتينية بمثابة البوابة الخلفية لأمريكا ولم تعد الدول الصغيرة والفقيرة تخشى سطوة أو نفوذ الدول الكبرى، ولم تعد دول الاتحاد الأوروبي تابع بشكل كامل للولايات المتحدة.
6- الاعتراف بدولة فلسطين يُسقط خيار الوطن البديل الذي كانت تحتج به إسرائيل خصوصاً اليمين الإسرائيلي وكرّس مفهوم أن العلاقة بين الأردن وفلسطين علاقة دولة بدولة، الأمر الذي يجعل التهجير القسري للسكان من فلسطين إلى أي من دول الجوار جريمة دولية ويتحمل المجتمع الدولي جزء من المسؤولية بهذا الخصوص، كما يُعزز قضايا اللاجئين بما يضمن حق العودة أو التعويض.
7- إن الاعتراف الدولي بفلسطين قد يُسهل الطريق أمام خطوات استكمال الإجراءات الخاصة بالاستقلال التام مثل إصدار الجنسية أو العملة الفلسطينية وإصدار جواز السفر الخاص برعاياها المعترف به دولياً بدلاً من الوثيقة المعمول بها حالياً.