إن من أكبر التحديات التي قد يواجها مراقب للأوضاع السياسية وتطوراتها العسكرية في السودان مؤخراً، هو أن يتمكن من تحديد تلك النقطة المرجعية التي يمكن له أن ينطلق منها في قراءة المشهد حيث يبدو مكتملاً ومترابطاً. فتكاد الأثار المترتبة على أحداث تاريخية يقترب عمرها من القرن، تكون حاضرة حضوراً جوهرياً فيما يجري من صراع في السودان، وتحديد توازنات القوة فيه، ورسم خطوط المواجهة بين مكوناته السياسية أو الاجتماعية. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن المحللين اليوم ومع كل التعقيدات التي أنتجت بعد ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018 على نظام البشير، لا يملكون تلك الرفاهية في قراءة المشهد بتلك الجذرية التاريخية. كما أن المشهد ومنذ توقيع الوثيقة الدستورية التي توافقت عليها القوى المدنية والعسكرية بعد سقوط البشير، يبدو أنه بدأ ينتج أنواع تحالفات وصدامات تحتاج إلى قراءة مخصوصة دون تذويبها في سياق تاريخي إجمالي، ولكن دون قطعها عنه أيضاً.
نحاول في هذا المقال أن نسلط الضوء على الصراع الدائر في السودان منذ سقوط نظام البشير في أبريل/2019 بين مكونات مدنية وعسكرية، وذلك قبل أن يتحول هذا الصراع إلى حرب داخلية بين المكونات العسكرية متمثلة بالجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وإن كانت المكونات المدنية متمثلة بشكل أساسي بقوى “الحرية والتغير” لا زالت حاضرة -وإن طرأت تغيرات على شكلها واسمها- إلا أنها تبقى في الخلفية من الصراع العسكري الدامي المرتبط بمعادلات خارجية قدر ارتباطه بالسياق الداخلي.
يمكن القول بأن الصراع في السودان اليوم يدور في فلك ثلاث محاور تصوغ هويته وتمثّل توازنات القوى فيه، مكونين عسكريين وهما الجيش وقوات الدعم السريع، ومكون مدني أقل حضوراً -خصوصاً بعد تفجّر الصراع العسكري- وهو قوى الحرية والتغيير، تتمثل هذه القوى اليوم بثلاث رجالات يمثلون أقطاب الصراع وهم كل من عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، ومحمد حمدان دقلو المشهور بـ (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع وعضو مجلس السيادة لاحقاً، وعبدالله حمدوك الذي مثل قوى الحرية والتغيير وشغل منصب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية والذي يترأس إطاراً جديداً اليوم تحت مسمى “تقدّم”. ومن المهم لرصد تفاعلات المشهد بصورة أكثر وضوحاً أن نقف وقفة سريعة تعريفية عند كل منها، ثم المرور على تجاذبات التحالف والنفوذ لكل منهما، ابتداءً من تحالفاتهما الداخلية مع القوى السياسية المدنية أو المسلحة، والسيطرة على الجغرافيا، والعلاقات الخارجية والدعم الدولي.
أولاً: أطراف الصراع
لا يمكن القول بأن قوى الحرية والتغيير تمثل كياناً سياسياً واضح الهوية ومحدد المصالح، بقدر ما أن هذا التحالف يمثل إطاراً تجميعياً لمجموعة القوى السياسية من أحزاب وجمعيات وحركات على رأسها تجمع المهنيين السودانيين، تكون بينها ما يسمّى بتحالف “الحد الأدنى”، على قاعدة إسقاط نظام البشير؛ دون أن تمتلك هذه القوى هوية سياسية أو مصالح موحدة وهو ما سينعكس على أدائها لاحقاً بصورة واضحة. وهو ما دفع دراسات إلى تسميتها بالتحالف المظلة، لما ينضوي تحتها من تنوع سياسي. كان للتحالف الوزن الأكبر إن لم يكن الوحيد في الشارع، لأنه جمع غالبية القوى السياسية تحت مظلته، وبعد سقوط نظام البشير شارك في صياغة الوثيقة الدستورية وترأس عبدالله حمدوك الحكومة الانتقالية ممثلاً عن قوى الحرية والتغيير.
تشكلت قوات الدعم السريع من مليشيات “الجنجويد” التي وقفت إلى جانب حكومة البشير في حربها ضد حركة العدل والمساواة المسلحة في إقليم دارفور في عام 2003، وهي مليشيات من المكونات العربية في الإقليم وتحديداً المكونات البدوية. نال حميدتي مكانته لدى نظام البشير بعد تحقيقه بقيادة ميليشيا الجنجويد النصر لصالح القوات الحكومية. وبقيت قواته الملاحقة دولياً على هذه الصيغة حتّى قرر البشير أن يدمجها في هيكل الدولة بتسميتها قوات الدعم السريع عام 2013 ومنح حميدتي حينها رتبة عميد. وبقيت قوات الدعم السريع تابعة بشكل مباشر للبشير شخصياً ولم تتبع للمؤسسة العسكرية وهو ما كان سبباً لخلافات عديدة مع قيادات الجيش. وفي عام 2017 تمت إجازة قانون قوات الدعم السريع في البرلمان، وترقية حميدتي ليصبح برتبة فريق أول. استفادت قوات الدعم السريع من مناجم الذهب في إقليم دارفور، وتعتبر من أهم مصادر قوتها وأهم مواردها.
على الرغم من قربه من نظام البشير، إلا أنه ومع ازدياد الضغط الشعبي، ووجود مؤشرات لسقوط البشير، توجه حميدتي إلى الوقوف بجانب القادة العسكريين الذي عزلوا البشير من منصبه، وبعد ذلك ووفقاً لمخرجات الوثيقة الدستورية، أصبح حميدتي نائباً لرئيس مجلس السيادة -البرهان- ليشكل هذا المنصب منصة التأثير السياسي لحميدتي وقوات الدعم السريع على المعادلة السياسية.
كان للجيش السوداني أثر مستمر على السياسة الفي السودان، حيث إنه ومنذ تأسيس نواة الجيش السوداني الحديث منتصف القرن اليوم، فنحن نتحدث عن طيف أوسع من المؤسسة العسكرية، إلى مؤسسات أخرى أنشأتها حكومة الإنقاذ، من أهمها جهاز الأمن والمخابرات، وقوات الدفاع الشعبي.
في 11 أبريل/ نيسان 2019، وبعد قرابة أربعة أشهر من الاحتجاجات، أعلنت القوات المسلحة بعد سيطرتها على الإذاعة والتلفزيون، وعلى لسان وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف، تعطيل العمل بدستور عام 2005، وإزاحة الرئيس عمر البشير من السلطة واعتقاله، وفرض حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر، ودخول البلاد في مرحلة انتقالية لمدة عامين تنتهي بإجراء انتخابات. لم تتوقف الاحتجاجات وفي اليوم التالي استقال بن عوف من منصبه تاركاً الموقع للمفتش العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، واستمرت المظاهرات حتى فض اعتصام القيادة العامة وإعلان الوثيقة الدستورية، وتشكيل مجلس السيادة.
إلى جانب هذه القوى الثلاث المحورية كان هناك العديد من القوى السياسية التي تتحرك على الأرض وتشكل محدداً بالنسبة لهذه القوى الكبرى، وخصوصاً القوى المسلحة منها، والتي تعاملت معها الحكومة الانتقالية لاحقاً من خلال اتفاق جوبا، وأدمجها المجلس العسكري في مجلس الشركاء، وقوى أخرى عديدة ستتولد نتيجة التحولات في التحالفات الكبرى.
ثانياً: مع تسارع الأحداث، التحالفات بين الانهيار وإعادة الإنتاج:
بعد 11 من أبريل 2019، وإسقاط البشير، تولى بن عوف من خلال المجلس العسكري إدارة الدولة، ولكن لم يتجاوز هذا يوماً واحداً حيث استمرت قوى المعارضة في الشارع بالإصرار على عزل كامل الفريق الأمني الخاص بالبشير ومحاسبتهم، حيث كان المتظاهرون يرون فيما قدمه بن عوف محاولة لإعادة إنتاج سيطرة الإنقاذ والإسلاميين على الحكم بانقلاب آخر. استجاب بن عوف واستقال من منصبه مكلفاً البرهان بإدارة الفترة الانتقالية؛ وعلى الرغم من أن البرهان ليس أقل اتصالاً بفريق البشير، إلا أنه على ما يبدو أقل قرباً من الإسلاميين؛ على الأقل أقل من بن عوف الذي هو نائب البشير. ومع ذلك استمرت الاحتجاجات حتى فض اعتصام القيادة العامة ووقوع مجزرة بحق المتظاهرين هناك، ما دفع نحو المحاولة بتعجيل الوصول إلى اتفاق مع قوى الحرية والتغيير التي تقود الشارع.
في الخامس من يوليو وبعد قرابة شهر من مجزرة القيادة العامة والذي اتهم كل من الجيش وقوات الدعم السريع بتنفيذها، تم التوصل إلى اتفاق الوثيقة الدستورية التي تنص على إنشاء مجلس السيادة، وتكليف حكومة انتقالية مدنية بإدارة شؤون البلاد، على أن يعينها مجلس السيادة الذي يتكون م أعضاء يسميهم المجلس العسكري، وأعضاء تسميهم قوى الحرية والتغيير، على أن تكون مدة رئاسة المجلس 21 شهر للمجلس العسكري و18 شهر لقوى الحرية والتغيير.
لم تقبل كل القوى السياسية المنضوية تحت مضلة الحرية والتغيير بالاتفاق على رأسها القوى اليسارية وأجزاء من تجمع المهنيين، ورأت أن هذا الاتفاق يعزز بقاء النظام السابق ورموزه مما دفع إلى انسحابات من تحالف قوى الحرية والتغيير، وهو أول التغيرات التي حصلت على شكل التحالفات القائمة في المشهد. ثم ما لبث أن اعترف المجلس العسكري بقوى الحرية والتغيير على أنها من يمثل الشعب السوداني لينشأ ما تمت تسميته بتحالف هجين بين المدنيين والعسكرين.
في تشرين أول عام 2020 جرى التوقيع على اتفاق سلام بين الحكومة والقوى المسلحة في اتفاق جوبا، هذه القوى مثلت طرفاً رابعاً إلى جانب كل من الحرية والتغيير، والقوات المسلحة، والدعم السريع. ووفقاً للتعديلات على الوثيقة الدستورية، فقد تم جعل 25% من وزراء الحكومة مختارين من قبل القوى الموقعة على اتفاق السلام. كما أفرز الاتفاق ما سمي بمجلس الشركاء المكون من 29 عضو من الأطراف الأربعة.
لم تكن الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير راضية عن هذا التغيير تماماً، كما أنها تسألت مراراً عن صلاحيات مجلس الشركاء وشككت في أهدافه، وهو ما قلل من الثقة بين المكون المدني والعسكري وشكك في جدية الجيش في استكمال العملية الانتقالية. ازدادت الأزمة تفاقماً مع محاولة الانقلاب الفاشلة في سبتمبر 2021 والتي أعلن الجيش عن إحباطها واعتقال مجموعة ضباط وصفهم بـ “فلول النظام السابق”. حاول البرهان أن يخفف من حدة الأزمة بعد لقائه بحمدوك، إلا أن هذه المحاولات لم تكن فاعلة حتى وصلت تأزم الموقف إلى انقلاب 25 تشرين الأول/2021 والذي عطل فيه البرهان مواداً من الوثيقة الدستورية مبقياً على اتفاق جوبا، وحل كل من الحكومة ومجلس السيادة الانتقاليين.
هنا توطد تحالف الحركات المسلحة والمكون العسكري، والذين أداروا الملفات الحكومية مع مجموعة من النخب المستقلة، لم يستمر هذا حتى لقاء البرهان بحمدوك مرى أخرى ومحاولة العودة للتفاهمات السابقة، وعودة حمدوك لرئاسة الحكومة، وهو ما رفضته بعض القوى السياسية حتى من بعض أعضاء حزب الأمة القومي، الذي شارك رئيسه في الترتيب لهذه المصالحة وشهد على توقيع الاتفاق بين حمدوك والبرهان. ومع رفض قوى الحرية والتغيير للاتفاق قدم حمدوك في يناير2022 استقالته من الحكومة، لتبقى الحركات المسلحة إلى جانب المكون العسكري في إدارة الملف الحكومي لوحدها. وفي ظل هذه الاضطرابات أخذت قوى الحرية والتغيير بالتفكك إلى أن أصبح هناك شقين متنافسين منها (قوى الحرية والتغيير–المجلس المركزي) و(قوى الحرية والتغيير–الميثاق الوطني “الكتلة الديمقراطية “).
في ظل تفكك التحالف الكبير -قوى الحرية والتغيير- بدأت تحالفات أخرى بالتشكل، وعلى الرغم من تفاوت زخم حضورها، إلا أنها كانت على مستوى أعلى من استقرار الهوية وتوحّد المصالح، ومن هذه الأطر “تحالف التغيير الجذري ووحدة قوى الثورة”، وهو تحالف يساري على رأسه الحزب الشيوعي، ومجموعة من المؤسسات التابعة له أو المحيطة به، إضافةً لحركات مسلحة مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وحركة تحرير السودان، وكان يرى نفسه في مواجهة مع المكون العسكري الذي يقف على النقيض الأيديولوجي منه باعتباره أكثر قرباً من الإسلاميين. وأما التحالف الثاني فهو تحالف “نداء أهل السودان”، وهو التحالف الذي جمع بين إسلاميين وإسلاميين سابقين وصوفيين وأفراد من نظام البشير، وهم الذين وجدوا أنفسهم أكثر قرباً من المكون العسكري، وهنا لابد من التحديد في داخل المكون العسكري “القوات المسلحة – الجيش السوداني”، حيث إن قوات الدعم السريع كانت معارضة لهذا التحالف. وهنا يمكن القول أن التمايز الحاصل بين القوى السياسية، ساهم في تجلية المسافة بين مكونات المركب العسكري.
في هذا الوقت، كان هناك تحالفين مهمين على الساحة السياسية الداخلية، والأهم أنهما كانا يمتلكان اتصالات على مستوى دولي، الأول وهو التحالف الذي ضم كل من الجبهة الثورية -الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا-، والحرية والتغيير– الكتلة الديمقراطية، وتحالف قوى الحراك الوطني. وهي القوى التي لاقت قبولاً ضمنياً من الجيش، كما أنها كانت أكثر قبولاً من قبل مصر، التي تحركت ورتبت لقاءً بين هذه القوى في شباط 2023، وأعلنوا عن تشكيل “تنسيقية القوى الوطنية الديمقراطية”، وأصدروا وثيقتين، وثيقة التوافق السياسي، والوثيقة الوطنية الحاكمة للفترة الانتقالية.
في وقت قريب كانت اللجنة التيسيرية لنقابة المحامين تعمل على مناقشة مقترح لمشروع دستور انتقالي جديد، في ورشة “الحوار حول الإطار الدستوري الانتقالي”، وانضمت إليها مجموعة من الأحزاب المدنية، ومن بقي مع الحرية والتغيير- المجلس المركزي، فيما وجد هذا التحالف قبولاً ضمنياً من قبل حميدتي وقوات الدعم السريع. ومن ثم تصريح علني بقبول مسودة الإطار الدستوري الانتقالي. وعلى صعيد إقليمي ودولي كان هذا التحالف على ما يبدو يجد في الرباعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، الإمارات العربية، المملكة العربية السعودية) بوابةً أفضل من البوابة الإفريقية عموماً والمصرية خصوصاً للتواصل والحوار دولياً.
في كانون أول 2022، تم التفاهم على الاتفاق الإطاري من قبل المكون العسكري، وقرابة 37 حزب وتنظيم سياسي، ومع ذلك رأت بعض الأحزاب والتيارات السياسية أن الاتفاق الإطاري كان مغلقاً على تيارات سياسية معينة، ومن ضمن هؤلاء حزب الأمة القومي الذي رفض الاتفاق ورأى أن التوقيع عليه محصور بقوى دون غيرها. في هذا الوقت أكدت الرباعية الدولية على ضرورة الالتزام بالاتفاق الإطاري، في حين أن الاتفاق الإطاري اعتمد في تأسيسه بصورة أو أخرى على الإطار الدستوري الانتقالي الذي أعدته اللجنة التيسيرية لنقابة المحامين والتحالف الذي كان معها، في حين رفضه التحالف الآخر الذي ضم نداء أهل السودان والجبهة الثورية والحزب الشيوعي وحزب الأمة القومية وتحالف قوى الحراك الوطني.
ثالثاً: تفجّر الأزمة، الصراع المسلح والسباق على الجغرافيا:
إن أحد أهم محاور الاتفاق الإطاري هو المتعلق بدمج قوات الدعم السريع في داخل بنية القوات المسلحة السودانية، وهذا النقاش لم يكن وليد تلك اللحظة، بل كان موضع نقاشات حادة صنعت خلافات بين القوى السياسية وبين عناصر نظام البشير ذاته. فمنذ وقت مبكر طالب العديد من قيادات الجيش بضرورة التعامل مع إشكالية استقلال قوات الدعم السريع، على رأسهم نائب الرئيس ووزير الدفاع عوض بن عوف.
في حين أن كلاً من المكونين العسكريين أبديا قبولاً للاتفاق الإطاري، إلا أن الخلاف بقي قائماً فيما يخص المدة الزمنية المخصصة لإدماج قوات الدعم السريع في بنية القوات المسلحة في سبيل الوصول إلى جيش وطني موحد. ففي الوقت الذي يصر فيه البرهان وقادة الجيش على أن هذا الدمج لابد له أن يبدأ وينتهي خلال الفترة الانتقالية، أي خلال سنتين، فإن حميدتي يرى أن هذا الدمج يحتاج إلى عشرة سنوات. في حين ربط البرهان دعم الجيش للاتفاق الإطاري بضرورة تعجيل دمج قوات الدعم السريع في المؤسسة العسكرية. وفي آخر ورشات الاتفاق الإطاري المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري لم يحضر ممثل القوات المسلحة في إشارة إلى عد الرضى عن مجريات التفاوض.
يبدو هذا الجزء التقني مقنعاً كسبب لصدام بين كلا المكونين، إلا أنه يبدو تسطيحياً مقارنةً بحجم الصراع والمعركة الدائرة على الأرض إلى اليوم. وفي ظل ضرورة الاعتناء بكافة الأسباب التي قد تصنع مشهداً بهذا التركيب، فإنه لابد من التركيز على الاختلافات الأيديولوجية والاجتماعية بين أنواع التحالفات السياسية التي ذكرناها سابقاً والتي يقف كل منها على النقيض إلى جانب أحد المكونات العسكرية على رأسها القوى الليبرالية، والمدنية، والقوى الإسلامية، والمحافظة. والتركيز على أيضاً على طبيعة النطاق الدولي الذي يتحرك كل منها فيه، ناهيك عن طموحات شخصية للسيطرة وتولي الحكم في فترة فوضى وعدم استقرار على صعيد السودان والإقليم.
في 13 نيسان/أبريل 2023 أشارت القوات المسلحة السودانية إلى أن قوات الدعم السريع تحرّك قواتها في مدن العاصمة والولايات الأخرى خارج نطاق اختصاصها ووظائفها ودون تنسيق مسبق مع القوات المسلحة. فيما أشار البعض إلى أن قوات الدعم السريع كانت تعمل على مدار أسابيع على تحشيد قواتها في العاصمة السودانية تجهيزاً للانقلاب على السلطة واستلام إدارة الدولة. أعلت القوات المسلحة أن على قوات الدعم السريع العودة إلى مناطق تمركزها والخروج من المناطق التي لا تقع ضمن اختصاصها وأن عليها تنسيق تحركاتها مع الجيش السوداني، وأنه وخلال 24 ساعة سيضطر الجيش للتدخل بالقوة. وفي يوم ال 15 من نيسان، اشتعلت الاشتباكات المسلحة داخل الخرطوم ثم لتمتد إلى مدن أخرى، مما أدّى لسقوط 300 قتيل و3000 جريح خلال خمسة أيام فقط وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
يتركز الحجم الأكبر من الصراع المسلح في السودان في أربع ولايات رئيسية، وهي العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث (الخرطوم، وأم الدرمان، والخرطوم بحري)، وفي ولاية كردوفان بأجزائها الثلاث (شمال كردوفان، وغرب كردوفان، وجنوب كردوفان)، وولاية دارفور، بأجزائها الخمسة (شمال دارفور، وغرب دارفور، ووسط دارفور، وجنوب دارفور، وشرق دارفور). وولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني ثاني أكبر مدن السودان.
وعلى الرغم من أن الحرب تأخذ نموذج من الكر والفر ولم يستقر تقدم أحد الأطراف حتى الآن، إلا أن الجيش بدأ يحرز تقدماً على حساب قوات الدعم السريع خصوصاً بعد دعوته للنفير إلأى جانب قوات الجيش، وإجراءه بعض التعديلات على خططه وتكتيكاته الهجومية. فإلى جانب القوات الشعبية التي دعمت قوات الجيش، عمل الجيش على إعادة تنظيم هجماته لتركز على هجمات برية مباغتة وضخمة وبتنظيم عالي، في حين خفف من طلعاته الجوية. وهو ما ساعده في إحراز بعض التقدم في مناطق عدة. كما يضيف بعض المحللين أن الجيش استفاد من عدد من المسيرات في بعض هجماته.
مع ذلك تبقى سيطرة قوات الدعم السريع على مناطق حساسة وذات كثافة سكانية عالية، ونطاق حدودي طويل تمثل تحدياً كبيراً للقوات المسلحة وحلفائها. إضافةً إلى تعرض قوات الجيش ومقاره وبعض حلفاءه إلى غارات عديدة باستخدام المسيرات ما يعني احتمالاً لحدوث تحول مرة أخرى في شكل المعركة وتوازنات القوى التي فرضها الجيش مؤخراً. كما تحافظ قوات الدعم السريع على مناطقها التي تضم مناجم الذهب، وتسيطر على ولايات في وسط السودان والتي تلعب دوراً محورياً ومهماً على صعيد الأراضي المنتجة زراعياً، والأهم أن المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع هي ذات الكثافة السكانية الأكبر حيث أن الكثافة السكانية في الشمال أقل منها بكثير في الجنوب.
يقاتل إلى جانب الجيش السوداني كل من الحركة الشعبية لتحرير السودان، وحركة تحرير السودان، وكتيبة البراء أبن مالك المنبثقة عن قوات الدفاع الشعبي التي تأسست عام 1989. وفي حين تحافظ قوات الدعم السريع على سيطرتها على المناطق في جنوب وغرب البلاد، حيث تشكل دارفور معقل قوات الدعم السريع، وتسيطر فيها على أربعة مدن من أصل خمسة، بينما يسيطر حلفاء الجيش في الحركة الشعبية لتحرير السودان على شمال دارفور. وفي كردوفان تسيطر قوات الدعم السريع على كل من غرب وشمال الولاية، بينما يسيطر حلفاء الجيش على جنوبها.
تشتد المعارك في ولاية الخرطوم ومدنها التي تشكل الثقل السكاني الأكبر في البلاد بما يقرب من 8 ملايين ساكن، يسيطر الجيش على معظم الولاية مع احتفاظ الدعم السريع بالسيطرة على القصر الجمهوري والمطار والأحياء السكنية في محيطه في مدينة الخرطوم. في حين تمكن الجيش من فك الحصار عن قواته في سلاح المدرعات قبل مدة واستعاد من أيام السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون في أم الدرمان ويفرض سيطرته على المدينة. وفي ذات الوقت أعلن مساعد البرهان قبل أيام عن إطلاق عملية كبيرة من ثلاث محاور باتجاه الخرطوم بحري، ووعد أنه وخلال أيام ستكون كل شوارع العاصمة مفتوحة.
تمثل مدينة أم الدرمان مدينة محورية تاريخياً، حيث كانت عاصمة المهدية سابقاً، ثم بعد الاستقلال ضمت مقرات سلاح المهندسين، والمدرعات والإذاعة والتلفزيون والعديد من القواعد والمؤسسات الرسمية الحساسة، إضافةً لما تشكله من قيمة استراتيجية كونها إحدى مدن ولاية العاصمة ووقوعها على تقاطع طرقات في قلب السودان والتقاء نهري النيل الأزرق والأبيض. وهو ما يفسّر استماتة كل من الطرفين في محاولة السيطرة على المدينة.
أما في ولاية الجزيرة، فقد سيطرت قوات الدعم السريع بصورة مفاجأة نهاية العام الفائت على عاصمتها ود مدني ثاني أكبر مدن السودان ما صنع جدلاً كبيراً حول انسحاب قوات الفرقة الأولى مشاة منها، لكن مساعد البرهان وفي ذات الوقت الذي أعلن فيه عن عملية لاستعادة الخرطوم بحري، أعلن عن عملية لاستعادة ولاية الجزيرة عبر أربع محاور فيما وصفها بأنها ستكون أكبر معركة برية في الحرب، وهي العملية التي بدأت بالفعل وبدأ الجيش يحرز تقدماً في غرب عاصمة الولاية وبعض قراها. كما تسيطر قوات الدعم السريع على ولاية النيل الأبيض ومناطق متفرقة من الغضاريف وسنّار.
يمثل هذا المشهد الصورة العامة للساحة العسكرية المتحركة باستمرار في السودان، وحتى اليوم يبدو أن كل من الطرفين لم يصل إلى النقطة التي يميل فيها إلى الانسحاب خصوصاً وأن كلاً من الطرفين مد خطوط اتصال داخلية وخارجية وحاول بناء شرعية ولو مختزلة لنفسه. وعلى العكس يظهر كل طرف من الأطراف مع الوقت استخداماً لأدوات وخطط وتكتيكات حربية جديدة في محاولة لاستدامة جهده وأثره العسكري.
لم تكن وجهات النظر موحدة بخصوص الموقف من الحرب، ففي حين بدت بعض التيارات السياسية خجولة في الأسابيع الأولى من المعركة، إلا أن الأنشطة العسكرية العشوائية والتهم التي يتم نشرها عن قوات الدعم السريع وممارساتها العدائية تجاه المدنيين، أدت إلى عدم وقوف مكونات سياسية معروفة بجانبه في المعركة. فالقوى السياسية التي وقفت إلى جانبه وتحالفت معه إبّان الاتفاق الإطاري؛ لم تعلن موقفاً سوى بطلب التهدئة والحث على المصالحة وحل النزاع. مثل قوى الحرية والتعبير- المجلس المركزي وكذلك الكتلة الديمقراطية.
أما بالنسبة للقوى التي وقفت إلى جانب الجيش سابقاً مثل الإسلاميين، فلم يعبروا عن موقف رسمي مؤسسي، إلا أن تصريحات محمد الجزولي عبّرت عن دعم القوات المسلحة واعتبرت قوات الدعم السريع وكلاء المشروع الأجنبي. أما التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية فرد الأزمة إلى قصور الاتفاق الإطاري، بينما توجه تحالف قوى التغيير الجذري عن رفضه لكل التحركات العسكرية محمّلاً كلا الطرفين المسؤولية عن الخسائر في المدنيين، ورافضاً الضلوع فيما اعتبرها حرب إقليمية على الموارد والمصالح.
وعلى الرغم من المواقف التي تظهر علناً، يميل مراقبون إلى أن القوى التي وقعت على الاتفاق الإطاري مالت إلى صف قوات الدعم السريع وإن لم تعلن ذلك، وعلى رأسهم “تقدّم” -الإطار الجديد لمجموعة قوى يترأسها حمدوك- التي تعرض بعض تحركاتها قبولاً بقوات الدعم السريع أكثر من القوات المسلحة.
رابعاً: التدخل الإقليمي بين النفي والشواهد:
منذ أن بدأت الاشتباكات العسكرية في السودان، لم تصرح أي دولة بشكل رسمي بدعمها لأحد الأطراف على الآخر. وحافظت معظم الدول على خطاب يدعو إلى التهدئة والذهاب نحو التفاوض وإيقاف الاشتباك المسلح. بما في ذلك كل من مصر والرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ومع ذلك قام كلا الطرفين باتهام الآخر بتلقي الدعم والمساعدات من دول في الخارج.
لم تكن قوات الدعم السريع تتجاوز دورها كمليشيا تقاتل إلى جانب الجيش السوداني، وحتى بعد مأسستها تحت مسمى قوات الدعم السريع، لم تنتقل ذلك الانتقال الكبير على مستوى المأسسة. إلا أنها امتلكت أدوات أخرى للعبور الإقليمي كان أهمها مناجم الذهب في مناطق جبل عامر في دارفور. حيث عملت حميدتي من بعد موسى هلال على زيادة انتتاج الذهب إلأى أن بلغ كميات تجارية في عام 2010، ويبلغ انتاج السودان من الذهب عام 2012 1.2 مليار دولار. وكانت الوجهة الأولى للذهب هي الإمارات العربية المتحدة.
وفي سياق آخر، تطور دور قوات الدعم السريع تطوراً كبيراً على مستوى إقليمي ووسعت من دائرة علاقاتها واتصالاتها مع إطلاق التحالف الدولي بقيادة السعودية عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، والتي شاركت فيها إلى جانب الجيوش الخليجية وجيوش عربية أخرى قوات الدعم السريع، ووصل عددها وفقاً لبعض التقديرات لعشرات آلاف المقاتلين.
لم يتوقف البرهان منذ بداية الأزمة من حديث عن تلقي قوات الدعم السريع دعماً إماراتياً في حين اتهم حميدتي الجيش بتلقي دعم إيراني وطائرات مسيرة، ودعم من قوات فاغنر. في حين ينفي الطرفين تلقي أي دعم خارجي. وعلى الرغم من ذلك فإن المواقف السياسية تظهر تحيزات إقليمية. فالموقف الذي تبديه الرباعية الدولية الذي يضم كل من الإمارات والسعودية وأمريكا وبريطانيا من ضرورة الالتزام بالاتفاق الإطاري يصب حتماً في صالح قوى الدعم السريع. في حين أن الموقف المصري وتحركاته الدبلوماسية تبدي توجساً واضحاً من علاقات الدعم السريع الإقليمية، وخصوصاً على صعيد أفريقي. كما أنها تبدي ارتياحاً أكبر للتعامل مع النظام العسكري الذي عايشته على مدى ثلاثة عقود ونصف.
خاتمة
لا تلوح في الأفق إلى اليوم حتى مع تكاثف الدعوات إلى تسوية النزاع، أي مؤشرات على نيات للتصالح وإنهاء الصراع سلمياً، كما أن الميدان لا يشير عسكراً إلى فرق قوة واضح لأحد الأطراف قد يؤدي إلى إنهاء المعركة سريعاً. وبعد عام من اندلاع الحرب في السودان، تقدر أعداد النازحين واللاجئين بما يقترب من 8 ملايين من السودانيين، إضافة لما يقترب من 15 ألف قتيل. وتكاد كافة المؤسسات تؤكد على شح مصادر المعلومات عن مدى تدهور الوضع الإنساني وما تخفيه الحرب تحتها من انتهاكات فردية وجماعية.
إن الساحة السودانية بشقها السياسي اليوم تعاني ارتباكاً حقيقاً بوقعها بين قوى عسكرية انقلابية وقوى خارجة عن السلطة تمارس انتهاكات جسيمة بحق المدنيين وفقاً للمصادر الأممية. ناهيك عن حالة الارتباك الطبيعية التي تعيشها هذه القوى نتيجة تشظي الميدان السياسي وعدم قدرته على صياغة تحالفات مستقرة ومستدامة إلى الآن وتفكك البنى المؤسسية إلى في إطارات ضيقة ومحدودة. ويزداد الإهمال العالمي اليوم بخصوص السودان بانشغاله في تسويات الشرق الأوسط ومحاولات تدخله الكثيف في المنطقة بعد السابع من أكتوبر لضبط إيقاع المناوشات بين الأطراف المختلفة لحماية مصالحه. مما يجعل من الملف السوداني وإلى حد بعيد في موقع متأخر على قائمة الأولويات الدولية. وهو ما لا يبشر بنهاية قريبة للأزمة.