عادةً ما يصف الدبلوماسيون الصينيون والسودانيون علاقات بلادهم على أنها نموذج للعلاقة بين الصين ودولة أفريقية، وذلك بسبب عمق البُعد التاريخي للعلاقات بين البلدين، وتعدد مجالات الشراكة والتعاون بين البلدين، فضلًا عن التزام السودان بسياسة “صين واحدة”، أي لا تعترف بتايوان دولةً مستقلة، التي تعتبرها بكين شرطًا لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع أي دولة. في المقابل تُحجم الصين عن التدخل في الشؤون الداخلية في السودان أو انتقاد أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان مثلما يفعل الغرب.
تحل هذا العام الذكرى الـ65 لإقامة علاقات دبلوماسية بين السودان والصين، ولكنها تأتي في خضم حرب داخلية تشهدها السودان منذ منتصف أبريل 2023، جعلت الصين، ومسؤوليها الرسميين، تُحجم عن الاحتفال بهذه الذكرى، رغم اهتمام القيادة الصينية البالغ بمثل هذه المناسبات، التي تتخذها فرصة لتعزيز العلاقات الثنائية بين الصين وبلدان العالم.
ورغم أن السودان كانت من ضمن أهم شركاء الصين في أفريقيا منذ بداية الألفية الثالثة، فإن قدر المصالح الاقتصادية أخذ يتراجع بعد انفصال جنوب السودان في 2011، التي استحوذت على ما يقرب من 75% من احتياطات النفط السودانية. ومع ذلك، ظلت السودان محط اهتماما بالنسبة للصين، نظرًا لموقعها الاستراتيجي في القارة، ولكونها إحدى الدول الأفريقية ذات الثقل الديمغرافي والسكاني، فضلًا عن مشهد عدم الاستقرار السياسي والأمني المستمر فيها، والذي يمكن أن تصيب عدواه منطقة القرن الأفريقي برمتها، التي تربط الصين بدولها علاقات شراكة استراتيجية ومصالح ممتدة.
ويحاول هذا التقرير تقدير مصالح الصين في السودان، ونهج بكين في التعاطي مع الحرب الدائرة في السودان بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو (الشهير بحميدتي)، وكذا المسار المُحتمل للموقف الصيني من الحرب.
أولًا- الصين في السودان: مصالح متشعبة لكن ليست جوهرية:
غالبًا ما تُعرف المصالح الصينية الجوهرية اختصارًا في ثلاث كلمات: الأمن، والسيادة، والتنمية، وعليها تدور مجمل سياساتها الداخلية والخارجية[1]. ولتحقيق هذه المصالح العامة، تضع الصين لنفسها أهدافًا اقتصادية وسياسية وأمنية وثقافية في تعاملها مع كل دولة وإقليم. وفي علاقتها مع السودان يمكن تلخيص أهداف الصين ومصالحها فيما يلي:
(1) ضمان استمرار تدفقات النفط: رغم تراجع أهمية السودان كمصدر مباشر للنفط للصين، فبعد ما كانت تقدم نحو 6% من الاحتياجات النفطية الصينية قبل 2011، أصبحت تأتي معظم احتياجاتها النفطية من جنوب السودان، الذي يوفر 2% من مجمل احتياجات الصين النفطة، فإن خطوط أنابيب نقل النفط تظل مملوكة للسودان، وهو ما يجعل استقرار السودان أمر مهم بالنسبة لتأمين تدفقات نفط جنوب السودان للصين[2].
(2) استمرار الشراكة الاقتصادية وتأمين عمل الشركات الصينية: قبل انفصال جنوب كانت الصين والسودان أكبر شريكين اقتصاديين لبعضهما في أفريقيا، ولكنها في الوقت الراهن تراجعت مكانة السودان في قائمة الشركاء التجاريين للصين في أفريقيا، إذ انخفض حجم التبادل التجاري بينهما من 11 مليار دولار عام 2011 إلى 2.84 مليار دولار عام 2022[3]. بالإضافة إلى ذلك يعمل نحو 130 شركة صينية في مجالات النفط والبنية التحتية (الطرق والكباري والموانئ) والزراعة والتعدين، وهو ما يعني أن السودان مستودع للاستثمارات الصينية في أفريقيا.
(3) ضمان قدرة الدولة على سداد الديون: تتُهم الصين دومًا بأنها توقع البلدان في “فخ الديون”، بسبب إقراضها الكثيف لهذه الدول لتنفيذ مشروعات بنية تحتية، ثمّ تضعف قدرة هذه الدول على السداد، وتُعد السودان ضمن أكبر المتلقين للدوين الصينية في أفريقيا، إذ تجاوز حجم الديون المستحقة من السودان للصين حاجز الـ5 مليارات دولار[4].
(4) الاستفادة من موقع السودان الجيوستراتيجي: يسمح موقع السودان لها بالإشراف على البحر الأحمر، وهو ما تعتبره الصين أمرًا مهمًا لضمان فعالية مبادرتها “الحزام والطريق” في أفريقيا، والسيطرة على الموانئ البحرية المهمة في العالم[5].
(5) الحد من امتداد الصراعات إلى جنوب السودان: يتسم إقليم القرن الأفريقي بالهشاشة الأمنية، ويؤدي أي صراع فيه إلى امتدادات في دول الجوار، وبالتالي، فإن توسع رقعة عدم الاستقرار في المنطقة، يُهدد مصالح الصين في دول المنطقة، خاصةً جنوب السودان، التي تُعد شريكًا أساسيًا في إمداد الصين بالنفط الأفريقي.
بالإضافة إلى ذلك كانت تحتفظ الصين بعدد من مواطنيها العاملين في السودان قبل الأزمة، والذين يُقدر عددهم بالمئات وقامت بإجلائهم بعد اشتعال الأوضاع هناك[6]. ومن ثمَّ، فإن للصين مصلحة رئيسية في تحقيق الاستقرار في السودان. ومع ذلك، فإن تحليل هذه الأهداف من منظور مصالح الصين الجوهرية يشير إلى أن هذه الأهداف ترتبط بمصلحة تحقيق الصين للتنمية بمعناها الواسع، بالحفاظ على استقرار المناطق والدول الشريكة للصين، والتي تُعد جزءًا من مشروعها الحزام والطريق.
ثانيًا- أبعاد النهج الصيني في الأزمة الراهنة في السودان
اتخذ الاهتمام الصيني بالأزمة الراهنة في السودان عدة مسارات، أولها: عبَّر عنه الخطاب الدبلوماسي والسياسي، الذي دعا إلى ضرورة الحل السياسي[7]، والحوار بين طرفي الصراع، وإقرار وقف لإطلاق النار، والعودة إلى الاتفاق الإطاري الذي وقعته الأطراف في ديسمبر 2022، فضلًا عن دعوتهم إلى تقليل حجم المعاناة الإنسانية للشعب السوداني[8].
وثانيها: كان برفض توقيع عقوبات على أطراف الصراع، أو التصويت على ذلك في مجلس الأمن، وهو خط يتسق مع موقف الصين السابق منذ فترة الرئيس عمر البشير.
وثالثها: إيفاد مبعوث خاص بشؤون القرن الأفريقي، وذلك لتعميق التواصل مع الأطراف المعنية داخل السودان والإقليم، كما عقدت الصين في أديس أبابا أواخر عام 2022 مؤتمرًا خاصًا بالسلام والتنمية في القرن الأفريقي؛ بهدف زيادة مساحة التواصل والحوار مع دول المنطقة في حلحلة القضايا الأمنية والاقتصادية.
وتشير مجمل ركائز التحرك الصيني في الأزمة إلى اعتماد واضح على الدبلوماسية، واتخاذ موقف محايد من طرفي الصراع. ويرتبط ذلك باعتبارين رئيسين، هما:
(1) الالتزام الصيني بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية: أحد أبرز موجهات السياسة الصينية في المجال الخارجي، والصراعات في العالم، وفي أفريقيا تحديدًا، هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية الخاصة بالدول[9]، خاصةً في الصراعات التي تتشابك فيها الأوضاع الداخلية، في بيئات تتسم بالتنوع العرقي والقبلي كما في السودان.
(2) عدم إثارة القوى الإقليمية والدولية الأخرى: يبرز في الأزمة السودانية دور القوى الخارجية بصورة كبيرة، إذ يعمد كل طرفٍ إلى تحقيق أجندة مصالحه الخاصة في السودان. وفي هذا الإطار، اختارت الصين سياسة “النأي بالنفس” خوفًا من إثارة حفيظة أي فاعل آخر سواء من أولئك الذين تحتفظ معهم بعلاقات قوية مثل الإمارات والسعودية وروسيا، أو حتى الولايات المتحدة التي يجمعها معها علاقات تنافس محتدمة في أفريقيا[10].
فعلى الرغم من أن للصين والولايات المتحدة مصالح مشتركة في استقرار السودان، بالعودة إلى الاتفاق الإطاري، وأنهما يشتركان في دعم دور المنظمات الدولية والآليات الإقليمية لحل الأزمة، فإن حالة التنافس العام بينهما تمنع تقاربهما إلى هذا الحد في الأزمة السودانية، كما أن التباين مع روسيا بشأن تدخلها في الصراعات، عبر الشركات العسكرية (خاصةً شركة فاجنر)، وتحقيق مصالح خاصة عبرها في مجال التعدين، بالإضافة إلى بيع الأسلحة الثقيلة، في مقابل الصين التي تفضل نهج الشراكة مع الحكومات وحل الصراعات بآليات الحوار والتعاون الإقليمي، جعلها تأخذ مسافة من السياسة الروسية هناك[11].
الدور الصيني في السودان: سيناريوهات مُحتملة
سيناريو الانخراط النشط:
يقوم هذا السيناريو على تطوير الصين دورها الراهن، وتخليها على نهج الانتظار والترقب، إلى الاضطلاع بدور نشط في التواصل وتقريب وجهات النظر بين طرفي الأزمة في السودان، ودعوتهم للتحاور والتفاوض في بكين، وبذلك تدخل الصين لتحمل راية الوساطة بين الأطراف. وفي هذا السيناريو ستعزز الصين من تواصلها مع الأطراف المعنية تحديدًا في مصر والخليج (السعودية والإمارات) والولايات المتحدة لحثهم على التعاون معها لإنجاح وساطتها.
سيناريو الانحياز لأحد الأطراف:
وفقًا لهذا السيناريو تتخلي الصين عن حيادها بين الأطراف، وتعلن دعمها لطرفٍ دون غيرها، وتحديدًا طرف رئيس المجلس السيادي الانتقالي السوداني (عبد الفتاح البرهان). ويقوم هذا السيناريو على احتمالية اتجاه
الصين إلى تنسيق سياساتها مع حليفتها روسيا، التي أعلنت مؤخرًا دعمها البرهان، وبذلك تتقاسم المكاسب مع روسيا من تحقق النصر للبرهان، بزيادة الاستثمار في قطاع الموانئ والاستثمار في بيع الأسلحة للسودان.
خلاصة … المسار المُرجح
تحمل الأزمة في السودان أبعاد متشابكة بالنسبة لصانع السياسة الصينية، إذ بينما توفر فرصة للصين لتقديم نفسها وسيطًا بديلًا للقوى الغربية، وشريكًا جديرًا بذلك للعالم النامي، فإنها تبدو حذرة من الانخراط الكامل في الأزمة السودانية، أو إعلان استعدادها لرعاية الحوار بين الطرفين، لا سيما وأن أيًا منهما لم يدع الصين أن تحمل راية الوساطة بينهما. ولأن السياسة الصينية تتبع نهج الانتظار والترقب في الصراعات الإقليمية، أو ما يمكن تسميته بالصبر الاستراتيجي، فإنها من غير المُرجح أن تغير نهجها القائم في التعامل مع الأزمة، وأطرافها المعنية، والذي يرتكز بالأساس على تعزيز التواصل الدبلوماسي، والحياد بين الطرفين، وعدم إثارة حفيظة القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الأزمة، في الوقت الذي ترى فيه الصين أن حجم مصالحها في السودان لا يشكل تهديدًا حيويًا لأمنها وسيادتها أو حتى تحقيق التنمية داخلها. وبالتالي تزاد احتمالات تحقق هذا السيناريو دون غيره من السيناريوهات السابقة.
[1] Scobell, A. (2020). China’s Grand Strategy: Trends, Trajectories, and Long-Term Competition. RAND Corporation. https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR2798.html. p11-12.
[2] صلاح، مصطفى. (2023). اتجاهات الوساطة: الصين وموقفها في الأزمة السودانية .آفاق سياسية، ع 118، ص 11.
[3] China/ Sudan, OEC World Data, Accessed: 23 May 2024, available at: https://oec.world/en/profile/bilateral-country/chn/partner/sdn
[4] Kynge, J., Schipani, A. Sudan conflict delivers fresh blow to China’s African lending strategy. Financial Times, 10 May 2023, at: http://surl.li/twmkt
[5] Coughlin, C. Russia, China and Iran Must Not Seize Control of Sudan. GATESTONE Institute, 16 May 2024, Available at: http://surl.li/twmkr
[6] Brender, F. Words Come Easy, Action Does Not: China in the Context of Sudan. China Global South Project. 26 April 2024. Available at: http://surl.li/twmke
[7] China calls for promotion of political solution to Sudan conflict. Xinhua. 8 March 2023. Available at: https://english.news.cn/20240308/a964bfa9f2bb4c76839bd4b6b05d9c2c/c.html
[8] UN-Sudan Conflict/Chinese Envoy. The Belt and Road News Alliance (BRNA). 21 March 2024. Available at: https://brnalink.com/vd_detail.html?library=204990
[9] وحدة دراسات الصين. الانتظار في المقعد الخلفي: الصين والصراع العسكري في السودان. مركز الإمارات للسياسات. 3 مايو 2023. متاح على الرابط التالي: http://surl.li/twmin
[10] Wadhawan, P. Chinese Ties with Sudan. London Politica. 23 May 2023, Available at: https://londonpolitica.com/sudan-conflict-1/chinese-ties-with-sudan
[11] Sudan conflict: how China and Russia are involved and the differences between them. The Conversation. 8 June 2023. Available at: http://surl.li/twmjh