” أدركنا إيران في الدقيقة التسعين حيث كانت تسعى لامتلاك قنبلة نووية” بنيامين نتنياهو 14-6-2025
منذ عشرين عاماً ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا ينفك يذكرنا بالفرصة النهائية للهجوم على إيران وإلا فسينتهي كل شيء. وكان أشهر مثال على ذلك خطابه في الأمم المتحدة 2012، حين تقلد شخصية معلم في مدرسة ابتدائية يتحدث لطلبة فاشلين -وهم في هذا الموقف الأمم المتحدة وعلى رأسهم إدارة أوباما- حيث يشرح لهم البرنامج النووي الإيراني والنقطة التي يجب عندها التحرك لإسقاطهم.
إذن فالأمر مجرد ذريعة. وأي محاولة لتصوير ما يحدث على أنه بالأساس محاولة لإيقاف السعي الإيراني عن امتلاك قنبلة نووية هي محاولة مضللة. فبالأساس لا تملك إسرائيل القدرات التي تتيح لها تدمير عناصر البرنامج النووي الإيراني وخاصة المفاعلات الرئيسية المخبأة في أعماق الجبال مثل فوردو. بالتالي يسعى هذا المقال لمناقشة الهدف الفعلي من المعركة الحالية؟ وكيف تسعى إسرائيل لتحقيق هذه الأهداف؟ وما الطرق الممكنة أمام إيران لإفشال هذه المساعي؟ هذا ما سنعمل على مناقشته دون أن نخوض في إعادة سرد الأحداث أو إغراق القاريء بتفاصيل الضربات والخسائر.
للإجابة عن سؤال السبب وراء توقيت العملية الإسرائيلية، لابد من فهم مسألة هامة في الحروب بشكل عام، وخاصة تلك التي تتزاحم فيها أطماع القادة ورغباتهم الشخصية مع المصلحة الوطنية وتتداخل فيها الأطراف إقليميا ودولياً. ففي هذا النوع من الحروب يكون من الصعب تحديد سبب بعينه أنه المحرك الأساسي وراء الأحداث. بالتالي هناك مجموعة أسباب هي ما أوصلت إسرائيل لهذه الخطوة:
من حيث الأهداف الإسرائيلية من هذا التصعيد، فالأمر بالأساس محاولة لإحداث تغيير جوهري في نظام الحكم الإيراني وتقليم أظافره بحيث يتوقف عن كونه خطراً مجدداً. فالإسرائيلي يعلم أن المشكلة ليست في منظومات الصواريخ ولا في تسارع تخصيب اليورانيوم وإنما في النظام القائم خلف ذلك كله. هذا التغيير يتراوح بين سيناريوهين:
في كلا الحالتين فهذه الأهداف بعيدة المنال على القدرات الاسرائيلية وحدها، ويمكن لإيران تحمل الكثير دونها، خاصة وأن لديها أوراقها هي الأخرى. لكن قد تتمكن إسرائيل من التقدم مربعات كثيرة على حساب الإيراني مالم يتم مقارعتها بالشكل المطلوب ومن ثم ينتهي الأمر باتفاق منحاز بشدة لصالح اسرائيل.
منذ نشأة إسرائيل وهناك مجموعة من الهواجس والعوامل التي شكلت طريقتها في الحرب. وبالاستناد لهاندل، يمكن إجمال هذه الأمور في:
تبلور عن هذه النقاط فن الحرب الإسرائيلي الذي يميل للعمل الهجومي المباغت مع إتقان حروب المناورة المشتركة، خاصة المدرعات والطيران والاستخبارت، وذلك بهدف حسم الحروب بشكل سريع وإبادة الخصوم نفسياً وليس مادياً. تحدث هذه الإبادة عن طريق تطبيق مباديء واردن وبويد التي تركز على تدمير عقد القيادة والسيطرة مع فرض إيقاع المعركة بشكل متسارع لا يسمح للخصوم برد الفعل مما يؤدي لوقوعه في حالة “الشلل”. هذه الأمور نجدها جميعاً حاضرة في الحرب طوال العامين الماضيين بما في ذلك هجوم أول أمس. لكن هناك نقطة تحتاج لتفصيل خاص وهي الاستراتيجية التي ابتدعتها إسرائيل في هذه الحرب اعتماداً على فهمها لخصومها وخاصة حزب الله وإيران حيث طبقت فنها العملياتي ولكن في إطار مختلف عن حروبها السابقة.
“يفشل الردع عندما لا تستعد للحرب”
هذا المبدأ الأساسي الذي فشلت إيران والحزب في تبنيه بشكل حقيقي كان بوابة اسرائيل للتعامل مع المحور. فبحضور أمريكا كعصا غليظة مدمرة، والتي أرعبت حزب الله وإيران من اليوم الأول، عمدت إسرائيل إلى الضرب المفاجيء المتكرر بشكل متصاعد يكسر قواعد الاشتباك وفي كل مرة تعتمد على حرص الطرف الآخر ألا يتورط في الحرب بحيث تضمن دائما أن الرد دون المستوى. في نفس الوقت تمارس أمريكا طقوس الردع والترهيب المختلفة من بدء من التصريحات بالدعم المطلق، مروراً بالتواصل عن طريق الوسطاء والتحذير المباشر، انتهاء بالمظاهرات العسكرية وتحريك المدمرات وحاملات الطائرات.
لكن وكعادة أي استراتيجية، لم يكن هذا المسعى لينجح لولا رافعتين أساسيتين جعلا مكونات المحور تعيد الحسابات ألف مرة، وهما الاختراق الأمني والتهديد بتفجير البيئة الحاضنة. والأمرين مترابطين فالاختراقات العميقة تودي بالسمعة والهيبة للحضيض، والتلاعب بالبيئة والاستفادة من وضعها المأزوم أحد أهم أسباب الاختراق.
وبالعودة للوضع الحالي فهذا ما فعلته إسرائيل. حيث سددت ضربات شديدة وصادمة بهدف ضرب القيادة والسيطرة وقتل نخبة من ركائز القوات المسلحة الإيرانية بالتزامن مع قصف للمنشآت النووية وقتل لكبار العلماء وتدمير لمنظومات الدفاع الجوي والصواريخ. في نفس الوقت سعت أمريكا للضغط الأقصى على إيران وإبداء الدعم المطلق لإسرائيل مع دفع الوسطاء للتهدئة وجلب إيران لطاولة المفاوضات بغض النظر عما إذا كانت هناك نية جادة في عقدها أم الأمر مجرد مزيد من التلاعب بالإرادة والقرار الإيراني.
رغم الخسائر الفادحة، يُبالغ الكثيرون في تأثير هذه الضربات على الأداء العام لإيران. فحزب الله، الذي لم يكن دولةً وتكبد خسائر أكبر بكثير، ظل متماسكاً حتى اليوم الأخير قبل الاتفاق، وظل قادراً على حصر إسرائيل في شريط حدودي ضيق. بالتالي ينطبق هذا الكلام بشكل أكبر على إيران التي تتمتع بخبرة طويلة، وكوادر بشرية متعددة، وفائض هائل من المواد، وبنية تحتية إنتاجية وتطويرية جعلتها مصدر عالمي للعديد من أهم أسلحة الحرب.
باختصار، أثر العمليات الإسرائيلية يعتمد على العامل النفسي بالأساس، مادامت القيادة والسيطرة موزعة ومادامت العمليات جوية فقط دون تحرك بري واسع. وجميع نظريات القصف الاستراتيجي التي حاولت حسم الحروب عن طريق الجو بأشكال مختلفة، ثبت فشلها تاريخياً.
إذن لدى إيران الفرصة والقدرة للتحرك في العديد من مسارات العمل منها على سبيل المثال:
إن الهدف الشامل من هذه المسارات المختلفة هو الانتقال من موقف رد الفعل إلى موقف استباقي ومن ثم إفشال طريقة إسرائيل في الحرب عن طريق فرض تكاليف متسلسلة ومتعددة الأنواع والتأثيرات عليها. ليس الهدف تحقيق نصر حاسم، بل تحقيق قدر من السيطرة على الزخم مع إيلام العدو ومن ثم ترك المتواليات السياسية تعمل سواء داخلياً في إسرائيل أو دولياً وخاصة الأمريكي.
أخيراً على إيران اتخاذ إجراءات ثورية في جبهتها الداخلية، فهذا وحده سيُشكل دفاعاً وردعاً حقيقياً. صحيح أن غالبية المعارضة الإيرانية لا تعبأ بالحرب مع إسرائيل، بل وتنظر لها بشكل سلبي إلا أن اللعب على الأوتار العرقية والقومية متبوعاً بتحقيق قدر من الإصلاحات الداخلية والاستفادة من الضربات الإسرائيلية لحشد الرأي العام فالمستهدف ليس نخب المعارضة بقدر ما هو الشارع الشعبي. هذا الخليط قد يوفر فرصة حقيقية لرأب هذا الصدع والذي يُعد السبب الحقيقي وراء كل هذا التراجع والنزيف.