حين أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نُويل بارو، في 14 يوليو 2025، أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا ستُفعّل آلية الزناد في موعد أقصاه نهاية أغسطس ما لم تلتزم إيران بشروط يمكن التحقق منها، لم يكن التصريح مجرد ضغط تفاوضي، بل خطوة محسوبة ضمن تحول تكتيكي أوروبي واضح. هذا التحول لم يأتِ في فراغ، بل في سياق تصعيد تدريجي أعقب الهجوم الأميركي-الإسرائيلي على منشآت نووية إيرانية، وغياب أي نتائج ملموسة من المحادثات المتعثرة مع طهران.
ما يثير الانتباه ليس نبرة التحذير، بل توقيت التهديد، وتزامنه مع تبلور موقف أميركي أكثر حزما تجاه إيران يطالبها بوقف تخصيب اليورانيوم نهائيا ويطرح في أحيان أخرى موضوع قدراتها العسكرية والصاروخية كموضوع على طاولة المفاوضات. في هذا السياق، تصبح آلية الزناد أداة لإعادة فرض القيود على البرنامج النووي الإيراني بأدوات أممية، بعد فشل الوسائل الثنائية والإقليمية والعسكرية.
تركز هذه الورقة على تفكيك الأساس القانوني والتقني لآلية الزناد، ليس من حيث تفسير البنود فحسب، بل من خلال فهم كيف تُستخدم هذه الآلية كأداة تصعيد سياسي منضبط ومدروس، يهدف إلى إعادة تشكيل البيئة القانونية المحيطة بإيران دون اللجوء الفوري إلى استخدام القوة العسكرية.
آلية الزناد كأداة قانونية للتصعيد الاستراتيجي
تنص خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) أو الاتفاق النووي الإيراني، على مسار واضح لحل النزاعات، يبدأ بالبند 36، ويتيح لأي طرف يعتقد أن الطرف الآخر لا يفي بالتزاماته أن يرفع المسألة إلى اللجنة المشتركة. ويُمنح هذا المسار مراحل متدرجة: 15 يومًا في اللجنة، ثم 15 يومًا على مستوى وزراء الخارجية، يليها تشكيل مجلس استشاري ثلاثي الأطراف، ثم مراجعة نهائية لرأي المجلس. وإذا لم يتم التوصل إلى حل، يمكن للطرف المتضرر اعتبار ذلك “إخلالًا جوهريًا”، وإحالة القضية إلى مجلس الأمن.
لكن ما يجعل هذه الآلية ذات تأثير استثنائي هو وجود ما يُعرف بـ”السؤال المعكوس”، الوارد في كل من البند 37 وقرار مجلس الأمن رقم 2231 حيث لا يُطلب من مجلس الأمن فرض العقوبات، بل يُطلب منه التصويت على استمرار رفعها. وإذا لم يُعتمد هذا القرار خلال 30 يومًا، تُعاد تلقائيًا العقوبات الأممية التي كانت سارية قبل الاتفاق النووي.
هذا الترتيب يعني أن أي دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن يمكنها إعادة فرض العقوبات الأممية دون الحاجة إلى قرار جديد، بل فقط من خلال تعطيل التصويت واستخدام حق الفيتو على استمرار رفع العقوبات عن إيران. والنتيجة أن التهديد بتفعيل آلية الزناد لا يحتاج إلى توافق دولي كامل، بل فقط إلى قرار سياسي منفرد من إحدى دول الترويكا الأوربية.
من هذا المنطلق، تخرج الآلية من كونها مجرد أداة قانونية إلى أداة ضغط ذات طابع استراتيجي عالٍ. فهي تسمح بإعادة فرض العقوبات بشكل “مشروع” من خلال قنوات مجلس الأمن، ما يمنح هذه الخطوة غطاء دوليًا، دون أن تكون مرهونة بإجماع مجلس الأمن أو حتى الاتفاق مع روسيا والصين حليفتا إيران.
ويسهم الإطار الزمني القصير الذي تفرضه بنود الآلية (مدة لا تتجاوز 65 يومًا من بداية الشكوى حتى إعادة العقوبات) في جعل هذا المسار أكثر فعالية من العقوبات أحادية الجانب، التي غالبًا ما تفتقر للغطاء الأممي وتواجه مقاومة قانونية في المؤسسات الدولية. وعليه، فإن التلويح الأوروبي بتفعيل الآلية يُفهم على أنه محاولة لتوحيد الصف الغربي قانونيًا قبل الدخول في أي مرحلة من مراحل الردع العسكري، أو حتى التفاوض المباشر مع إيران من موقع أقوى.
من الناحية العملية، فإن هذا المسار سيؤدي إلى إعادة تفعيل قرارات مجلس الأمن السابقة التي فرضت على إيران جملة من الالتزامات الصارمة، من تعليق تخصيب اليورانيوم، إلى وقف تطوير الصواريخ الباليستية، إضافة إلى العقوبات الشاملة على القطاعات المصرفية والنفطية والعسكرية. كما أن هذا التفعيل يُعيد القيود الأوروبية المرتبطة بالملف النووي تلقائيًا، ما يعني أن هامش المناورة الإيرانية سينخفض بشكل كبير سياسيًا واقتصاديًا.
التداعيات الاستراتيجية على إيران
تفعيل آلية الزناد لا يمثل مجرد إعادة فرض قانونية للعقوبات الأممية، بل هو، من منظور إيراني، عودة إلى نقطة الصفر في إدارة العلاقة مع الغرب، ولكن ضمن شروط دولية أشد صرامة وبيئة إقليمية أكثر عدائية. الأثر المباشر لتفعيل هذه الآلية لن يُقاس فقط بمحتوى العقوبات المعادة، بل بطريقة تفعيلها وسرعة تحركها، خاصة أنها تعيد تأسيس حالة “إجماع أوربي أمريكي” ضد إيران، وهو ما حاولت طهران تفكيكه منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018.
من الناحية الاقتصادية، تعني عودة العقوبات الأممية، مدعومة بأطر رقابية من مجلس الأمن، فرض قيود صارمة على مفاصل الاقتصاد الإيراني، لا سيما في قطاع النفط، والصناعات البتروكيماوية، والمصارف، والشحن البحري. لكن التأثير الأخطر يكمن في عودة “شرعية المقاطعة”، أي أن الشركات العالمية التي كانت تتعامل مع إيران في ظل اتفاق 2015 لم تعد تملك غطاء قانونيًا، وستُواجه مجددًا تهديدات مباشرة من الهيئات التنظيمية الغربية.
اقتصاديًا، هذه العودة تعني إغلاق قنوات التمويل غير الرسمي التي اعتمدت عليها طهران في السنوات الماضية، وتجميد الأصول المرتبطة بالشركات والمصارف الإيرانية في الخارج، وهو ما سينعكس على السيولة النقدية، وسعر صرف العملة المحلية، ومستوى التضخم، ويعيد سيناريو الانكماش القسري إلى الواجهة.
في البُعد العسكري والأمني، يعود التهديد الأشد إلى حظر استيراد المواد ذات الاستخدام المزدوج، وإحياء الحظر على الأسلحة التقليدية، ومنح الدول الحق بتفتيش السفن والطائرات الإيرانية، حتى في المياه الدولية. هذا التفويض يعيد مشهد الحصار البحري إلى ما قبل الاتفاق النووي، ويفتح باب الاشتباك مع القوى البحرية الغربية المنتشرة في الخليج وغيره بالإضافة إلى ذلك فهو يزيد من تعقيد العلاقة مع روسيا والصين اللتان ستجبران على الامتثال للقرارات الأممية وسيقتصر تعاملاتهما مع إيران في الإطار غير الرسمي والتهريب والسوق السوداء وتعطيل حركة السيولة النقدية إلى إيران.
لكن التأثير الأمني يتجاوز ذلك. فمع إعادة توصيف إيران بوصفها “في حالة إخلال نووي جوهري” بقرار أممي، فإن أي ضربة عسكرية مستقبلية ضد منشآتها قد لا تواجه الإدانة الدولية المعتادة، وقد تُعتبر تطبيقًا للقرار 2231 المعدَّل بتفعيل الآلية، خصوصاً أن إيران ستعود في تصنيفها إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يشرعن التدخل العسكري للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. هذه الثغرة تفتح المجال أمام إسرائيل أو الولايات المتحدة لتبرير الضربات العسكرية المحتملة المستقبلية على أنها في إطار “تنفيذ التزامات أمنية بموجب ميثاق الأمم المتحدة” وليس مجرد تصعيد سياسي، علاوة على ذلك قد يتشكل تحالف دولي عسكري أوربي أمريكي لتوجيه ضربات عسكرية لإيران إذا انسحبت من معاهدة حظر الانتشار النووي وظهرت ملامح لتوجهها نحو تصنيع القنبلة النووية.
التحالف الأوروبي-الأميركي وتكتيك الضغط المنسق
التحول الملحوظ في موقف الترويكا الأوروبية تجاه الملف النووي الإيراني لا يمكن فصله عن إعادة الاصطفاف الأوربي بعد تحييدهم عن الجولات الخمس للمفاوضات الماضية بين إيران والولايات المتحدة. فبينما كانت باريس وبرلين ولندن تحافظ حتى منتصف 2024 على سياسة احتواء مرن إزاء طهران، فإن تنسيقها الحالي مع واشنطن، لا سيما في مسألة تفعيل آلية الزناد، يعكس انتقالًا إلى استراتيجية ضغط منسق، تسعى عبرها القوى الغربية لإعادة إنتاج البيئة القانونية والسياسية لما قبل اتفاق 2015، ولكن ضمن غطاء دولي محدث وأكثر صرامة وبوابة مفتوحة لعودة الدور الأوربي للمفاوضات بين طهران وواشنطن.
في هذا السياق، يبدو أن الدور الأوروبي لم يعد مقتصرًا على التوسط أو تسهيل التفاوض، بل بات طرفًا فاعلًا في تنفيذ سياسة “الإجبار المتدرج”. وهو ما أكدته تصريحات مايك والتز، المرشح الأميركي لمنصب مندوب واشنطن في الأمم المتحدة، حين قال إن تفعيل آلية الزناد سيكون أول إجراء سيتخذه، مشيرًا إلى توافق تام مع الأوروبيين بشأن توقيته وتنفيذه.
هذا التوافق ليس تفصيلًا ثانويًا. إذ يشير إلى تلاشي الفجوة التي كانت قائمة بين الضغوط الأميركية المتشددة والمواقف الأوروبية المتحفظة، وهي الفجوة التي منحت إيران طوال السنوات السابقة هامشًا للمناورة الدبلوماسية وتفكيك الإجماع الغربي. اليوم، وفي ظل هذا التناغم السياسي الاستثنائي، لم يعد هذا الهامش متاحًا بنفس الشكل. بل إن الغرب يطوّق إيران قانونيًا على مستوى مجلس الأمن، ويصعّد ضدها ميدانيًا كما أظهر الهجوم الأميركي-الإسرائيلي على منشآت نطنز وفوردو ومنشآت أصفهان النووية في يونيو 2025، وفي الوقت ذاته يترك لها شبح العزلة يلوح في الأفق.
أوراق طهران في مواجهة آلية الزناد
رغم التصعيد الأمريكي الأوربي المنظم، لا تزال لدى طهران أوراق استراتيجية قادرة على إعادة التوازن. أول هذه الأوراق هو التهديد بالخروج من معاهدة NPT، والذي لا يهدف بالضرورة إلى صناعة قنبلة نووية، بل إلى رفع سقف الردع السياسي والضغط المعاكس.
الورقة الثانية، وربما الأخطر، هي رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى ما فوق 90%، دون إعلان رسمي عن التحول نحو خيار التسليح. هذا المستوى، وإن لم يُنتج سلاحًا نوويًا فعليًا، فإنه يكفي لفرض معادلة ردع سياسية تُعيد الغرب إلى طاولة المفاوضات من موقع أكثر توازنًا. وقد سبقت طهران في استخدام هذا التكتيك خلال 2021–2022 حين رفعت التخصيب إلى 60% كرد على تعثر المحادثات.
لكن طهران لا تتجه إلى هذه الخيارات دفعة واحدة. بل من المرجح أنها ستعتمد ما يمكن تسميته بـ”الرد التدريجي العكسي”، أي أن كل خطوة غربية نحو التصعيد القانوني ستُقابل بخطوة إيرانية تقنية أو دبلوماسية، في محاولة لضبط مسار التصعيد وتجنّب نقطة الانفجار النهائي. فهي تدرك أن الانسحاب الكامل من المعاهدة النووية، أو الانتقال إلى التسليح المعلن، سيفتح الباب أمام ضربات عسكرية مباشرة دون اعتراض دولي.
وعليه، فإن الفترة الفاصلة حتى نهاية أغسطس، والتي حدّدتها الترويكا الأوروبية كموعد نهائي قبل تفعيل الآلية، تمثل نافذة حرجة لجميع الأطراف. الغرب يسعى لاستثمارها لفرض معادلة “الامتثال أو العقوبة”، بينما تستخدمها إيران لتقييم القدرة على المناورة، وحشد دعم سياسي دولي مضاد، أو حتى خلق واقع نووي جديد يغيّر شروط اللعبة بالكامل.
الخاتمة
ما يجري حول آلية الزناد ليس خلافًا قانونيًا محضًا، بل هو إعادة تعريف جذرية للعلاقة بين إيران والغرب عبر أدوات القانون الدولي. تفعيل هذه الآلية لا يعني فقط عودة العقوبات الأممية، بل نهاية كاملة لمرحلة تفاوضية امتدت لأكثر من عقد. في هذا السياق، تفقد المؤسسات الدبلوماسية التقليدية مثل اللجنة المشتركة والوكالة الدولية للطاقة الذرية دورها الفعلي، ويصعد منطق الردع المركب: قانوني، أمني، دولي وسياسي.
ومع اقتراب موعد الحسم الأوروبي، فإن مستقبل البرنامج النووي الإيراني، بل وربما مستقبل معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ذاتها، سيُحدَّد ضمن هذا التصعيد المراقب بدقة، حيث كل طرف يحاول أن يدفع خصمه نحو الحافة، دون أن يكون أول من يسقط فيها.