تأخُر الرد الكندي الأخير عبر جاستن ترودو ووزيرة خارجيته، على تهديدات الرئيس الأمريكي الجديد، دونالد ترمب في تصريحاته، لضم كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لا يتعلق بعلاقة أوتاوا المشتبكة والمعقدة بواشنطن، وبحجم الصدمة من تكرار حديث ترمب عن كندا (الولاية 51) فقط، ولكن بأزمة الداخل الكندي نفسه، وتوقيت رسائل ترمب الجديدة.
وخاصةً أن بعض نوازع خطاب ترمب، متعلقة بتوتر سابق مع ترودو شخصياً، وإن كان رحيل ترودو بعد استقالته من رئاسة الحكومة مؤخراً، لا يضمن تغير سياسة ترمب مع كندا، وإن كان فوز الحزب المحافظ الكندي، يُفترض أن يُحسّن العلاقة مع إدارة ترمب، لكن هناك شبكة من التعقيدات في هذا المستقبل أيضاً.
ورغم أن كندا هي اليوم تحت سيادة التاج البريطاني، والحاكم العام المفوض فيها يتبع للندن، واليمين الدستوري لمواطنيها يؤدّى لملك بريطانيا، إلا أن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والاشتباك في قضايا الحرب الأهلية الأمريكية، وفي دعوات ضم كندا للاتحاد الأمريكي قديمة، والتي يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر والثامن عشر، والتي شملت حقيبة توترات حسّاسة بين لندن وواشنطن، كادت تتحول إلى مواجهة عسكرية، في عهد الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن.
ورغم أن النصر الإنجليزي على الفرنسيين، وحسم محاولة انفصال كيبيك نظّم قوة التاج البريطاني، وهيمنته في كندا، غير أن الجار اللصيق والقومية المشتركة للمستعمرين البيض، أو المهاجرين تجعل رابطة كندا مع أمريكا اليوم، أكثر تأثراً، فما بالك بالملف الاقتصادي القوي والمؤثر الشرس، الذي لوّح به ترامب لإخضاع كندا، إلى قرار الاندماج، فهل يقصد ذلك فعلياً، وما هي مساحة الرفض والمناورة الكندية؟
لقد قفزت هذه التطورات، في زمنٍ دخلت كندا فيه منعطفاً حرجاً، في مستقبلها السياسي فاستقالة جاستن ترودو، تزامنت مع ارث تحديات صعبة ومعقدة، تُدرَس من خلال علم الاجتماع لا التحليل السياسي فقط، وانهيار تحالف الأقليات الذي قاد عبره ترودو، حكومة اللبراليين، كان من الداخل الحزبي، وليس فقط بسبب صعود المحافظين الكنديين، الذين يستعدون لفوز كبير يقارب انتصار الجمهوريين في أمريكا.
ورغم استثمار الحزب اللبرالي لتكتل الأقليات حوله، ممثلاً لمنصة الدفاع عن حقوقهم السياسية، إلا أنه خسر كثيراً في ساحتهم في السنوات الخمس الأخيرة، بسبب الفشل الاقتصادي وضغطه على الطبقة الوسطى والفقيرة، وكان من أهم أخطاء ترودو دعمه لأقوى لوبي في الحزب، وهو اللوبي المثلي والجندري، وحملته ضد الأسرة الفطرية التي يؤمن بها غالبية الشعب من (البيض) والأقليات، والتي استهدفت المسلمين بقسوة.
وتورط ترودو شخصياً، في هذه الحملة، وهو ما تسبب في شرخ كبير بين ترودو ومسلمي كندا، وإن كانت له ذاكرة إيجابية مهمة، بسبب مواقفه القديمة مع قضاياهم، ودعمه الإنساني لهم ولقضايا لجؤهم، لكن مذبح غزة وموقفه السيء من دعم تل ابيب، ودعمه للوبي الاجتماعي المتطرف، أحرق سفن الإصلاح الأخيرة، رغم ايمان مسلمي كندا ومخاوفهم، من عودة التطرف العنصري، عبر المحافظين في ظل عهدة ترمب الجديدة.
وتردي علاقة الحزب الليبرالي بالمسلمين، هو نموذج لاضطراب الساحة السياسية، فهناك مشتركات لكل مواطني كندا، في أزمة الوظائف وكارثة السكن الصعبة جداً، وتغطية التأمين الطبي، الذي يتأخر بالأشهر، وأحياناً لأكثر من عام، لحصول حالات حرجة واضطرارية على موعد مع طبيب متخصص، رغم قوة النموذج الطبي في كندا.
ورغم وجود أعداد ضخمة من الأطباء ومن التخصصات الطبية المهنية، لكن تم تعطيل ضمهم للخدمة، بسبب الإجراءات البيروقراطية المعقدة، والأخطر هو دور لوبيات المصالح، في النقابات والمؤسسات الطبية، التي تسعى لبقاء مصالحها الرأسمالية، من خلال حصر الخدمات الطبية بين فِرقَها ومؤسساتها.
ومؤخراً انفجرت أمام كندا لا الحزب الليبرالي فقط، مشكلة الهجرات واللجوء، وأعادت مؤسسات الدولة بعث ملف الإقامات الدائمة ومَنح الجنسية الكندية، هذه الأزمة بعثها اكتشاف عمليات تزوير ضخمة، في ملف الطلبة الهنود الدوليين، اتُهمت فيه حكومة مودي المتطرفة في نيودلهي، وقطاعات فساد في مقاطعة اونتاريو ومؤسسات فدرالية كندية، في قضية أكثر من مليون ملف، تبين أن ملفات الطلبة الذين كان بعضهم أو كثير منهم ضحايا، وكان يتم تأمين مِنح قبول لهم، دون التأكد من وثائقهم اتضح أنها مزورة، عبر تلك الشبكات القوية من الفساد.
ومنذ انفجار الملف الذي تجاوز العام، أطلقت الحكومة الكندية مراجعات ضخمة، وتَراجَعَتْ عن مساحة كبيرة لفرص المهاجرين والقادمين الجدد، وكل هذه الأزمات، تحضرُ في ظل صعود حزب المحافظين الكندي، الذي يطرح نفسه بدرجة كبيرة كممثل لمشاعر وتوجهات الكنديين من أصلٍ غربي (البيض)، وإن كانت بعض قياداته تختلف عن مستويات العنصرية المتطرفة في أمريكا، كما أن الحالة الكندية بالعموم، تُعتبر نسخة أفضل من الولايات المتحدة الأمريكية، في ملف السكان الأصليين، وفي التعامل مع المهاجرين، وإن كان هناك ارثاً مشتركاً للهجرات الاستعمارية لأمريكا الشمالية.
نلاحظ هنا غياب الطرف الثالث، فالحزب الديمقراطي الجديد، الذي مثّل قديماً بعداً مختلفاً، حتى حكومة ترودو الأخيرة قبل الانقسام، وإعلان جاغميت سينج زعيم الحزب سحب ثقته في ترودو، إلا أن الحزب تحت إدارة جاغميت سينج نفسه، فشل في تحقيق بناء سياسي ثالث، وحيوية مستقلة في الحياة السياسية الكندية.
وكان يُنظر إليه مؤخراً كمجرد ضلع استثماري للحزب اللبرالي، وفاقم الأمر هيمنة صورة النموذج الذي مثله سينج، كمواطن سيخي كندي، يبرز على حساب الوطن الكندي الجديد، وقدرات المعتدلين في تاريخ الحزب من ذات القومية البيضاء، على تحقيق التوازن المختلف.
وهذا ليس نقداً لمفهوم التعدد الكندي، لكن هذا التعدد كان صخب سياسي حاشد، يُخفي حقائق كبرى عن حقيقة القوى العميقة في التاريخ السياسي الكندي، وانفجار المشاعر اليمينية، هو دليل على فشل مشروع الدمج اللبرالي، لوجود أزمة في فرض منظومة القيم، وصراع شرس مع الطرف الآخر (الأبيض) وضعف فرص الجسور المشتركة بينه وبين الأقليات، وهي المساحة التي تلاعب بها حزبَي التداول على الحكم.
إذن نحن نتحدث عن مجتمع سياسي، شامل للحياة الكندية ورحلتها السياسية، تتصدر فيها الشريحة الاجتماعية البيضاء المحافظة المشهد، وتتفتت أمامها كل القوى الاجتماعية الأخرى، ومن الإنصاف أن نُشير إلى أن المزاج (الأبيض) وموقفه الأخلاقي، ليس كله سيء وفيه درجات اعتدال واضحة.
لكن لعبة الشطرنج للدولة العميقة في كندا، عزلت الشرائح الاجتماعية وخاصة المسلمين الكنديين بقوة، عن التواصل والجسور الثقافية، لتحقيق بناء وطني كندي، يُخفّف من توحش الرأسمالية على كل المجتمع، ويُحيي قيم التعدد الكندية، في نماذج عملية اخلاقية لعلاقات المجتمع، وليس شعارات وظيفية تتلاعب بها المصالح السياسية.
ولقد ساهم الاستقطاب الإسرائيلي دوماً، في تعقيد هذه العلاقات الوطنية، واستدعاء مصالح تل أبيب ومعاييرها، على الحياة الكندية، للاستقواء على مسلمي كندا، في تضامنهم الفلسطيني، أو حتى في حقوقهم المدنية، ولم تكن العلاقة بين يهود ومسلمي كندا، متوترة لأسباب وطنية، ولا اجتماعية، رغم عمليات الإرهاب التي عاشتها فلسطين المحتلة والإبادة، أو تلك التي نفذتها جماعات مسلحة في أوروبا وامريكا الشمالية، ولكن التوظيف الدعائي الشرس للإسلاموفوبيا، ودور النفوذ الإسرائيلي فيه، كما هو التطرف المسيحي العنصري الأخير، هو من خلق أجواء الاحتقان.
في نهاية الأمر من المهم أن نعود لندقق، في عبارة ترامب الذي اكد فيها على المجتمع الكندي الذي يرغب بالوحدة مع أمريكا، فمن هو هذا المجتمع؟
إنه التشكل الأخير الذي حددنا معالمه، فهل كانت رسالة ترامب ضغطاً موسمياً لإخضاع كندا لمصالح اقتصادية ظالمة، أم كان رغبة جدية تعكس فيها واشنطن الجديدة، عقيدة ترامب السياسية، بعد فوزه الساحق، وأن قرار الدمج مطروح بالفعل، وأين هنا موقف عاصمة الضباب، التي غابت عنها الشمس، بعد تغير التاريخ الغربي الحديث وإعلان الزمن الأمريكي الإمبراطوري.