في عالم يتأرجح بين صخب الصراعات وتقلب التحالفات، استطاعت دولة قطر أن ترسم لنفسها مسارًا دبلوماسيًا متفردًا يجعلها في قلب الأزمات دون أن تكون جزءًا منها. هذه الدولة الخليجية الصغيرة في مساحتها، الكبيرة في طموحاتها، اختارت منذ مطلع الألفية أن تستثمر في أدوات جديدة للنفوذ، تقوم على الحوار، والانفتاح، وتكريس موقعها بوصفها وسيطا موثوقا لدى جميع الأطراف. لم يكن ذلك محض صدفة، بل نتاج رؤية استراتيجية وضعتها القيادة القطرية في صلب مشروعها الوطني، قدمت من خلالها نموذجا لتفعيل مفاهيم “دبلوماسية الوساطة” و”القوة الناعمة” و “دولة الحضور”، مما يعطي أهمية لدراسة حالة قطر كنموذج تطبيقي فريد عالميا لهذه المفاهيم
ففي حين استهلكت قوى أخرى مواردها في صراعات مفتوحة أو استقطابات حادة، كانت قطر تبني شبكة متماسكة من العلاقات الدبلوماسية والقنوات الخلفية، وترسّخ صورتها الدولية كدولة “حضور لا صدام”، و”نفوذ لا وصاية”. فما الذي جعل من قطر وسيطًا مفضلاً في نزاعات تمتد من كابول إلى غزة، ومن بيروت إلى دارفور؟ وكيف تمكّنت من تحويل دبلوماسية الوساطة إلى رافعة استراتيجية لنفوذها الإقليمي والدولي؟
منذ تولّي الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم عام 1995، دشّنت قطر مرحلة جديدة من الحضور السياسي والدبلوماسي في الإقليم والعالم، وتعزز هذا النهج وراكم مصادر قوته بعد تولي الشيخ تميم بن حمد حكم البلاد في 2013. فقد اختارت الدوحة أن تتحرّك وفق رؤية مستقلة عن التكتلات التقليدية، وأعادت تعريف دور الدولة الخليجية في محيطها العربي والدولي، لا بوصفها تابعًا أو مُموّلًا، بل فاعلًا استراتيجيًا يمتلك قراره ويصوغ مساراته.
استند هذا التحوّل على عدة مرتكزات بنيوية:
١. الاستثمار المنظّم في أدوات القوة الناعمة
في نوفمبر 1996، أُطلقت قناة الجزيرة الفضائية كمشروع إعلامي مستقل يُعبر عن توجهات قطر نحو الانفتاح والتأثير غير المباشر. وبحلول أوائل الألفينات، توسعت الشبكة لتشمل عدة لغات ومنصات، بما في ذلك الإنجليزية والبلقان والوثائقية، وأصبحت في غضون سنوات المنصة الأهم في تغطية ملفات الشرق الأوسط. تجاوز دور الجزيرة الإعلام إلى السياسي، إذ وُثّق تأثيرها في حشد الرأي العام إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000–2005)، واحتجاجات الربيع العربي (2011)، ما أعطاها ثقلًا رمزيًا كأداة تعبئة وأجندة موازية للقوة الرسمية.
٢. تحرير القرار السياسي وبناء شبكة توازنات غير تقليدية
بعد 1995، خرجت قطر تدريجيًا من مظلة السياسات السعودية التقليدية، وبنت سياسة خارجية مستقلة، جمعت بين علاقتها القوية بالولايات المتحدة، وبين علاقات مفتوحة مع إيران، وسوريا، وحركات المقاومة الفلسطينية.
على سبيل المثال، كانت قطر من أوائل الدول الخليجية التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إيران بعد الثورة الإسلامية، واستضافت مكتبًا لحركة طالبان، ورفضت تصنيف حماس كحركة إرهابية، دون أن تقطع أو تضيّق علاقاتها مع العواصم الغربية. هذا التوازن منح قطر هوامش مناورة واسعة في ملفات معقدة، أهلتها للعب دور الوسيط الموثوق بين أطراف لا تجتمع عادة على طاولة واحدة.
٣. توظيف منظم للثروة السيادية لبناء نفوذ عالمي
تمتلك قطر اليوم واحدًا من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، هو جهاز قطر للاستثمار (Qatar Investment Authority)، الذي تُقدَّر أصوله بأكثر من 526 مليار دولار، ويحتل المرتبة التاسعة عالميًا من حيث الحجم. وقد وجَّهت الدوحة جزءًا كبيرًا من هذا الصندوق نحو استثمارات استراتيجية في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا وأفريقيا، مركزة على قطاعات رئيسية مثل الطاقة، والعقارات، والخدمات المصرفية، والاتصالات، والرياضة.
شملت استثمارات الصندوق شراء حصص كبيرة في شركات عالمية كبرى، منها فولكسفاغن (حصة تقارب 17%)، وباركليز (نحو 12.7%)، وسينسبري (حوالي 15%)، إلى جانب حصة تبلغ 4% في شركة توتال إنرجيز الفرنسية. وفي العقارات، نفذت قطر مشاريع ضخمة في لندن(مثل استحواذها الكامل على مجموعة Canary Wharf)، وميلانو (حي Porta Nuova)، ونيويورك (مشروع Manhattan West). كما تشمل محفظتها الاستثمارية فندق The Peninsula الفاخر في باريس.
واستثمرت قطر هذه الموارد أيضًا في ترسيخ حضورها الدولي، من خلال استضافة فعاليات كبرى مثل كأس العالم FIFA 2022، ومنتدى الدوحة السنوي، إضافة إلى مؤتمرات دولية للحوار والوساطة، ما حوّل العاصمة القطرية إلى منصة دبلوماسية وسياسية مؤثرة على الساحة العالمية.
لم يكن حضور قطر في أزمات المنطقة والعالم حضورًا إعلاميًا فقط، بل تجسّد في أدوار فعلية ضمن مفاوضات شديدة التعقيد، حيث نجحت الدوحة في أداء وظيفة الوسيط المحايد، المقبول من مختلف الأطراف، والموثوق من القوى الكبرى. وفيما يلي أبرز المحطات التي رسّخت هذا الدور:
بعد اشتباكات مسلّحة كادت تعصف بالاستقرار اللبناني، لعبت قطر دورًا حاسمًا في جمع الفرقاء اللبنانيين، واستضافت مفاوضات مباشرة انتهت بتوقيع “اتفاق الدوحة” في مايو 2008. الاتفاق أعاد التوازن السياسي بين القوى اللبنانية، ومهّد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، واعتُبر لحظة مفصلية أثبتت أن قطر تستطيع إنجاز ما عجزت عنه قوى إقليمية أكبر.
دخلت قطر على خط الصراع في إقليم دارفور، وساهمت في توقيع اتفاق سلام الدوحة عام 2011 بين الحكومة السودانية وبعض الفصائل المسلحة، كما عملت على تمويل مشاريع إعادة الإعمار والتنمية في الإقليم. كما استضافت مفاوضات بين حكومة السودان وجنوب السودان بعد الانفصال.
ربما كان الملف الأفغاني هو أبرز ما رسّخ اسم قطر عالميًا كقوة دبلوماسية صاعدة. فقد فتحت الدوحة أبوابها لاستضافة مكتب سياسي لحركة طالبان منذ عام 2013، واستثمرت في بناء الثقة بين الحركة والمجتمع الدولي. مما أدى إلى توقيع اتفاق السلام بين طالبان وواشنطن في فبراير 2020، والذي مهّد لخروج القوات الأميركية بعد عقدين من الحرب.
حافظت قطر على علاقة منفتحة مع حركة حماس، وساندت مشاريع الإغاثة وإعادة الإعمار في قطاع غزة، دون أن تقطع صلاتها بإسرائيل. هذا التوازن الصعب جعلها فاعلًا أساسيًا في كل هدنة أو تفاوض بين تل أبيب والفصائل، كما في جولات التصعيد أعوام 2014 و2021 و2023. وكانت قطر دائمًا حاضرة في منع الانفجار الإقليمي عبر ضخ المساعدات، وتمويل الكهرباء، والوساطة الهادئة.
ما يميز التجربة القطرية في الوساطة أنها ليست مجرد جهود ظرفية لمعالجة أزمات، بل تقوم على منهج دبلوماسي واضح المعالم، يستند إلى فلسفة “الحياد النشط”؛ حيث لا تقف قطر على مسافة واحدة رمادية، بل تقف على مسافة مفيدة من الجميع، بما يسمح لها بالتأثير لا بمجرد التفرّج. وفيما يلي أبرز خصائص هذا النموذج:
قطر تقيم علاقات مع أطراف متناقضة: الولايات المتحدة وإيران، حماس وإسرائيل، تركيا والغرب. هذا الانفتاح لا يعني تبنّي مواقف تلك الأطراف، بل يعني الحفاظ على جسور اتصال مفتوحة تجعل من قطر، في الغالب، همزة وصل لا غريمًا لأحد.
في هذا السياق؛ لم تكن “الجزيرة” مجرد قناة إخبارية، بل أداة سياسية ذات تأثير دولي، ساعدت في كسر الاحتكار الإعلامي الغربي، ووفرت منبرًا للجهات المهمشة، ما عزّز مصداقية قطر في التمثيل والوساطة. هذا الحضور الإعلامي أضاف بعدًا مكملاً لقوة الدولة الناعمة.
استخدمت قطر ثروتها السيادية في بناء شبكة علاقات استراتيجية من خلال الاستثمارات في الغرب وآسيا وإفريقيا، وهو ما أضفى على حضورها الاقتصادي طابعًا سياسيًا أيضًا. فالدولة التي تستثمر في البنية التحتية بلندن وباريس، وتستضيف أبرز الأحداث الرياضية، لا يُنظر إليها كطرف تقليدي في معادلة الصراع.
العمل الدبلوماسي لا يُقاس بسرعة النتائج، بل بقدرة الوسيط على الصمود والمواظبة. وقد أثبتت قطر ذلك في مفاوضات طالبان، التي استغرقت سنوات، وفي صمودها أثناء أزمة الحصار (2017–2021)، دون أن تتورّط في ردود أفعال متسرعة أو تضحّي بمبادئها.
لم تتعامل القيادة القطرية مع الوساطة كتكتيك دبلوماسي مؤقت، بل كخيار استراتيجي متجذّر في رؤيتها لدور قطر الدولي. وقد تمأسس هذا الدور ضمن هيئات ومراكز وطاقم دبلوماسي محترف، مما أخرج الوساطة القطرية من عفوية المواقف إلى احترافية الدولة.
تدل المؤشرات الكمية والنوعية خلال العقدين الأخيرين على أن قطر تمكّنت من تكريس نفسها كقوة دبلوماسية متوسطة الحجم (Middle Power) تتجاوز محدودية الجغرافيا والديموغرافيا، وذلك بفضل ثلاثة محاور تكاملت ضمن سياسة خارجية مركّزة وذكية:
١. بنية التحالفات المرنة مع القوى الكبرى
مع الولايات المتحدة، تحتضن قطر منذ 2003 مقر القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) في قاعدة العديد الجوية، التي تضم أكثر من 10,000 جندي أميركي، وتُعد أكبر منشأة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط. هذا الموقع لم يكن مجرد استضافة أمنية، بل تجسيد لثقة واشنطن في الاستقرار السياسي والحياد الدبلوماسي الذي تتميز به قطر. وقد لعبت الدوحة دورًا محوريًا في ملفات بالغة الحساسية مثل اتفاق طالبان 2020، وتبادل الأسرى مع إيران عام 2023.
مع الاتحاد الأوروبي، تتقدم قطر تدريجيًا نحو بناء نفوذ اقتصادي سياسي متوازن:
٢. الوساطات الناجحة كرافعة دبلوماسية
وفقًا لتقرير مركز “مجموعة الأزمات الدولية” (ICG) لعام 2023، فإن قطر تدخلت كوسيط مباشر أو داعم في أكثر من 12 ملفًا إقليميًا خلال السنوات العشر الماضية
٣. الدوحة كمركز متعدد الوظائف الدبلوماسية
خلاصة هذه الخصائص أن قطر نجحت في تحويل مفهوم الوساطة من مجرد دور حيادي إلى مشروع دبلوماسي شامل، يجمع بين الحضور الرمزي، والمصداقية السياسية، والبنية المؤسسية، والشبكة الاقتصادية، والأدوات الإعلامية. وهذا ما جعل من نموذج “الحياد النشط” ركيزة فعالة في دبلوماسية بلد صغير بحجمه، واسع بتأثيره.