من إدارة إقليم إلى حكم الدولة: فرص وتحديات الحكومة السورية المؤقتة

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
12/20/2024
شارك المقالة

في غضون اثنا عشر يوما من عملية ردع العدوان، سقط نظام الأسد، ومع سقوطه تغيرت فجأة الأسئلة المطروحة على قوى المعارضة المسلحة من كيفية إسقاط الأسد عسكريا، إلى كيفية إدارة سوريا الجديدة، بما تحمله من تناقضات إثنية وطائفية، وتدخل أجنبي متعدد ومعقد، فضلا عن تردي شامل في كافة مقومات الحياة السياسية والاقتصادية. تفكك الورقة أهم التحديات التي قد تتعرض لها السلطة الجديدة في دمشق، وهي ثلاثة تحديات رئيسية: أولا تحدي فرض الهيمنة على كامل الجغرافيا السورية، حيث لم تحسم سلطة دمشق حتى الآن سيطرتها على مناطق في جنوب وشرق سوريا، ثانيا القدرة على صياغة عقد اجتماعي جديد يتجاوز حالة الانشطار الإثني والطائفي الذي ضرب البلاد خاصة منذ بداية الثورة، وثالثا الحصول على الاعتراف الدولي وتجاوز حقبة العقوبات الغربية والتصنيف على قوائم الإرهاب، وأخيرا؛ توحيد القوى الثوري وإعادة تأهيل مؤسسات الدولة. إن هذه التحديات وإن كان جزءاً منها حاضراً في إدارة إدلب، إلا أنها لم تكن حاضرة كلها، والأهم لم تكن حاضرة بهذا الحجم. هذه التحديات.

 

منذ يوم الأحد، ومع تلك اللحظة الفارقة التي سقط فيها نظام بشار الأسد في سوريا، كان من الصادم للوهلة الأولى سقوط حلب، لكن وفي غضون أيام، لم تعد المسألة مسألة قدرة المعارضة على توسيع مناطق نفوذها، بل أصبح السؤال كيف يسقط النظام الذي جابه جموع الثائرين لقرابة عقد ونصف في مدة لم تكمل عشرة أيام؟ ومع كثافة هذا السؤال وأهمية حضوره، والإجابات المطولة التي قدمت عنه، إلا أن دخول المعارضة إلى دمشق ومن اللحظات الأولى، ومع توصلها لتسويات سريعة مع ما تبقى من هياكل سياسية للنظام، ومن ثم إعلانها عن عملية انتقال منسقة بشكل سلمي بين حكومة نظام الأسد وحكومة الثوار، وتسمية محمد البشير رئيساً للوزراء، بات من الواضح أن ما جرى ليس تغلّباً عسكرياً صرفاً، وأن قوى المعارضة لم تكن تخطط لإسقاط نظام الأسد وحسب، بل كانت تخطط لبناء نظام سياسي. أعلنت غرفة العمليات المشتركة التي تتصدرها هيئة تحرير الشام أن محمد البشير، الذي كان رئيساً لحكومة الإنقاذ في إدلب سيتولى مؤقتاً رئاسة الحكومة السورية، وذلك حتى الأول من مارس/آذار 2025، وذلك بهدف تسيير أعمال مؤسسات الدولة والخدمات، والعمل على التمهيد لعملية بناء مؤسسات الدولة، وتأمينها، واستتباب الأمن في البلاد.

وهو ما فتح الباب على العديد من الأسئلة المتعلقة بقدرة هذه الحكومة على القيام بمهامها، وأداء الدور المنوط بها في المرحلة الانتقالية، خصوصاً بعد عقد ونصف شهدت فيها سوريا تدميراً واسعاً للبنى التحتية، وانهياراً لقطاع واسع من مؤسسات الدولة، وحضوراً أجنبياً كثيفاً على أراضيها، ناهيك عن هجرة ملايين السوريين خارج البلاد وانهيار العملة السورية وخلو الدولة من العملة الصعبة والذهب.

لطالما وُصِم حكم الحركات المسلحة بالفوضى، والأهم عدم قدرة الفاعل المسلح/ العسكري، على تسيير شؤون الدولة والقيام بالتسويات التي يتطلبها العمل السياسي، إلا أن السلوك الذي انتحته فصائل الثوار في وقت مبكر لم يتطابق تماماً مع الحكم التقليدي عن هذه الحركات، وهنا لابد من الإشارة إلى جانب يبدو أنه رافد أساسي لفرادة هذه التجربة، وهو مسألة انشاء ما يشبه الحكم الذاتي منذ عام 2017 في مناطق المعارضة في إدلب وما حولها. إن هذه التجربة لم تكن عملية إدارة عسكرية على الرغم من حضور هيئة تحرير الشام وبكثافة في التأسيس لهذه البنية، لكنها أيضاً طورت مؤسسات وحكومة تتكون من 11 وزارة لإدارة أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مواطن ونازح، عملت من خلالها على إدارة مناطقها لأكثر من سبعة أعوام، أسست فيها لنظام قضائي متواضع، ومؤسسات أدارت مناطق اللاجئين والرعاية الإنسانية، وأدارت مؤسسات التعليم، إضافةً إلى محاولات متواضعة لتطوير البنية التحتية وبناء هيكلة في مؤسسات الحكومة. لكن مع كل هذا، إلى أي حد يمكن القول أن تجربة الحكم الذاتي في إدلب، يمكنها أن تكون كافية كخبرة تأسيسية في إدارة الدولة؟ وما هي التحديات التي تواجهها قوى المعارضة في إدارة الدولة، التي لم تكن حاضرة، أو على الأقل ليس بذات الكثافة، في إدارة إقليم إدلب إن جاز التعبير؟

يمكن تلخيص التحديات التي تواجهها الحكومة الجديدة في أربع تحديات أساسية، لم تكن حاضرة في تجربتها السابقة، الأولى وهي مسألة الهيمنة على الجغرافيا وفرض السيادة، والتعامل مع التواجد الأجنبي على الأراضي الوطنية. والثانية التأسيس لعقد اجتماعي بين مكونات اجتماعية من طوائف وإثنيات مختلفة وإدماجها في العلمية السياسية ومؤسسات الدولة. أما الثالثة فالمتعلقة بمسألة كسب الشرعية وتحقيق الاعتراف وفتح قنوات الاتصال الدبلوماسية مع المجتمع الدولي. وأخيراً، مسألة تحقيق الأمن وتوفير الخدمات وما يسبقها من تمكين لمؤسسات الدولة وتوحيد القوى الثورية داخلها.

أولاً، الهيمنة على الجغرافيا وفرض السيادة. إن من أكثر المسائل تعقيداً في سوريا هي مسألة تقسّم الجغرافيا على قوى متعددة، أو وجود نفوذ أجنبي عليها من دول مجاورة أو دول أخرى، أو الاحتلال الإسرائيلي. ولربما أن أكبر تحديين متعلقين بالجغرافيا اليوم هما المتعلق بالشمال الشرقي، والذي تسيطر فيه قسد (قوات سوريا الديمقراطية) على مساحة تتراوح بين 20-30% من أراضي سوريا، والأهم أنها أراضي ذات حدود مع كل من العراق وتركيا، أي أنها أراضي لها اتصال على عالم خارجي قد يمكّنها بطريقة أو بأخرى من تعزيز استقلاليتها. عدا عن تملّك هذه الأراضي لمعظم الموارد النفطية في البلاد. أما التحدي الآخر وهو المتعلق بالجنوب الغربي الذي تتوسع فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي وتعمل على فرض مناطق عازلة بأعماق كبيرة تصل في بعض الأماكن إلى 18 كم. ولكن الإشكال الأكبر والذي يجعل التهديد الإسرائيلي أكثر حضوراً، هو المتعلق بسعي واضح وحثيث من قبله لتدمير البنى التحتية العلمية والعسكرية التي قد تتيح للمعارضة ودولتهم أن يتملكوا قوة رادعة.

يضاف إلى ذلك المناطق العازلة في الشمال التي قامت تركيا ببناء الجيش السوري الوطني فيها، ولكن قد يبقى التعامل مع هذه القوات أكثر مرونة نتيجة قربها من المعارضة وقرب تركيا من المشهد. ولكن إشكالاً آخر، يكمن في أن أراضي الدولة السورية تتموضع عليها العديد من القواعد والقوات الأجنبية، التي تعد لاعباً مؤسساً في التقسيم الجغرافي. وتلعب دوراً مهماً في توجيه الفواعل على الأرض، خصوصاً فيما يخص الأكراد والولايات المتحدة.

ثانياً، التأسيس للعقد اجتماعي يشمل إثنيات وطوائف متعددة وإدماجها في العملية السياسية ومؤسسات الدولة. وهو التحدي الذي قد يكون أكثر التحديات عمقاً وأقلها بروزاً تحت عنوان واضح. إن سوريا البعثية إن جاز التعبير، عملت على مأسسة الدولة وفقاً لمبدئ محاصصة جلي، وهذا اشتمل تطويق مساحات سياسية واقتصادية لجماعات وإثنيات متعددة. وعلى الرغم من أن الثورة السورية الممتدة لعقد ونصف قد أتت على الكثير من هذه البنى التي تم ترسيخها سابقاً؛ إلا أنها لازالت حاضرة ولابد من تفكيكها بهدف بناء الدولة ومؤسساتها وتنظيم سوقها وفقاً لمبادئ العدالة والمساوة والمواطنة. إن هذا يتطلب إنجاز دستور جديد وبسرعة كبيرة، قبل أن تمل القواعد الاجتماعية، ويدفعها التخوف إلى الانفجار، أو أن يدفع بعض الحركات إلى الانفصال عن جسم الثورة. من هنا لابد من العمل على تأسيس جسم ما، قادر على تمرير هذه المرحلة، وأن يمنحها الشرعية التي تحتاجها للعبور والثبات، وبناء دولة تداول سلمي، ودولة خيار شعبي.

ثالثاً: الحصول على الاعتراف الدولي؛ لم تتمكن حتى الآن القوى الثورية، وتحديداً غرفة العمليات المشتركة بقيادة هيئة تحرير الشام من نقل ما قامت به من عمليات “إعادة تعريف”، على مستوى الفكر والممارسة، إلى مستوى الهوية السياسية المعترف بها، الذي يفتح الباب على إعادة موضعتها في المجتمع الدولي، وحتى على مستوى الإقليم. إن بقاء “تحرير الشام” مصنفة إرهابياً سيعيق التواصل مع سوريا الدولة. ولذلك فإن العمل على إتمام العقد الاجتماعي الذي ذكرناه سابقاً، واستخدامه لتأسيس الشرعية الشعبية للمشروع السياسي، نقطة مفصلية في القدرة على المطالبة بالحضور الدولي، والأهم التواصل مع الجوار، والمطالبة بالدعم، ورفع العقوبات، وفتح الحدود، واستدخال سوريا في السوق العالمية مرة أخرى، والمطالبة بحماية الأرض، والتحرك ضد أي اعتداءات على الأراضي السورية، وطلب المساعدة من بعض الحلفاء لتقديم الدعم الذي يساعد على ببسط النفوذ وتحقيق السيادة، وهو ما لن يتمكن أحد غالباً من تقديمه علناً طالما بقيت تحرير الشام في هذه المساحة من التعريف.

رابعاً، تمكين مؤسسات الدولة وتوحيد القوى الثورية، وفرض الأمن، وتوفير الخدمات. وقد تكون كافة هذه النقاط مرتبطة بمسألة بناء مؤسسات الدولة، إن هذا التحدي، هو التحدي الذاتي الفصلي، وهو على مستويين؛ الأول وهو مستوى تجاوز الاختلافات وتوحيد الأرضية بين مختلف القوى المسلحة على الأرض، لأن الوحدة في مواجهة النظام لا تعني بالضرورة الوحدة فيما بعد ذلك، وبهذا نحن نعلم يقيناً أن الاختلافات على التفاصيل السياسية قد تفجر في أي لحظة صراعاً مسلحاً جديداً. ولحل هذه المعضلة، لابد من تفعيل مؤسسات الدولة وهو ما قدمته غرفة العمليات المشتركة حينما أعلنت عن ضرورة نزع السلاح وتوحيد هذه القوى في مؤسسات الأمن والجيش؛ لكن يبقى التحدي في مدى قدرة إنزال هذا القرار على الأرض في وجه قوى ثورية تحمل السلاح من منطلقات أيديولوجية مختلفة على مدار أكثر من عقد.

في ذات الوقت فإن سوريا قد فقدت غالب بناها التحتية التي تقدم الخدمات للقواعد الاجتماعية وتجعلهم أكثر قدرة على احتمال عملية بناء الدولة، لكن في ذات الوقت فإن إعادة الإعمار ضرورية ومفصلية في عودة اللاجئين، وإعادة توزيع النازحين، وهذا بحاجة لجهود كبيرة وداعمين على مستويات محلية ودولية. ولكن يكمن التحدي هنا في تجاوز الأزمة الاقتصادية، وتفعيل التجارة، ومحاولة الاستفادة من موقع سوريا الاستراتيجي في أسرع وقت لفتح خطوط التجارة التي تعبر من خلالها، وتأمينها بعدف استقطاب السياحة والاستثمارات.

إن هذه التحديات وإن كان جزءاً منها حاضراً في إدارة إدلب، إلا أنها لم تكن حاضرة كلها، والأهم لم تكن حاضرة بهذا الحجم. إن مستوى التعقيدات التي يفرضها التعامل مع كل هذا التداخل الدولي، والاختلاط الثقافي والتنوع الاجتماعي، والأزمة الاقتصادية، وتركة الدولة المهشمة؛ كلها تجعل من المهمة اليوم أصعب بكثير على هيئة تحرير الشام، وعلى الثوار عموماً، الذين يحتاجون إلى كل رصيد شرعية، وكل دعم مادي أو عسكري، لترسيم حدود سوريا، ولاستيعاب مجتمعها وخدمته، وإعادة مهجريه. وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يتم دون أذرع عملياتية سياسية إدارية تمثل كافة المكونات الاجتماعية، وتجتهد في إنفاذ أعمال هذه المرحلة الانتقالية بأسرع ما يمكن. ولكن في ذات الوقت، فإن هناك مسؤولية كبيرة على دول المنطقة، وتحديداً دول الجوار مثل الأردن وتركيا، للمساهمة في تمرير هذه العملية بأٍسرع وقت وأنسب الطرق، وهذا يستلزم تقديم دعم تقدي وإداري، وأحياناً مادي وعسكري، لضمان سلامة الدولة السورية.  ويبقى السؤال هل تفسد توازنات الإقليم، هذا المسار، أم يتغلّب الداخل على حجم التدخل فيه؟

شارك المقالة

اشترك في نشرتنا الاخبارية