مصر وإعادة الإعمار في السودان: لماذا كان دعم الجيش خيارًا استراتيجيا لا تكتيكيًا؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
03/23/2025
شارك المقالة

في فبراير 2025، تم الإعلان رسميًا عن تكليف شركة مصرية بتنفيذ أول مشروع لإعادة الإعمار، ليكون بداية لسلسلة من المشروعات التي ستنفذها شركات مصرية كبرى في مختلف القطاعات. ومن أبرز هذه الشركات المقاولون العرب، التي تتمتع بتاريخ طويل في تنفيذ مشروعات البنية التحتية الإفريقية، بالإضافة إلى شركة أوراسكوم للإنشاءات، التي تمتلك خبرة واسعة في تطوير مشروعات الإسكان والنقل. هذه المشاريع تشمل إعادة تأهيل رصيف وادي حلفا، مشاريع الربط الكهربائي والسككي، وإصلاح البنية التحتية للموانئ السودانية، وهي مجالات تُرسّخ النفوذ المصري في البلاد، لا سيما على طول الحدود والممرات التجارية الحيوية مثل ميناء بورتسودان.

 

من منظور جيوسياسي، فإن تخصيص عقود إعادة الإعمار للشركات المصرية يُعزز المصالح الاستراتيجية للقاهرة في السودان، حيث يمنحها نفوذًا اقتصاديًا مباشرًا في مرحلة ما بعد الحرب، ويُضعف فرص الإمارات وإثيوبيا في فرض أجندتهما عبر دعم قوات الدعم السريع. ومن الناحية الأمنية، فإن بقاء الجيش السوداني مسيطرًا على الدولة يعني استمرار التعاون العسكري والأمني بين القاهرة والخرطوم، مما يُمكّن مصر من تحقيق توازن في مواجهة النفوذ الإثيوبي، خاصة فيما يتعلق بنزاع سد النهضة ومنطقة الفشقة الحدودية.

 

لماذا يدعم مصر الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع؟

 

تجمع مصر والسودان حدود برية تمتد لأكثر من 1,276 كيلومترًا، إلى جانب روابط تاريخية وثقافية ودينية عميقة. لطالما نظرت القاهرة إلى استقرار السودان باعتباره عاملًا رئيسيًا في أمنها القومي، لا سيما أن السودان يؤثر بشكل مباشر على مياه نهر النيل، وهو شريان الحياة الرئيسي لمصر. ومنذ الاستقلال السوداني عام 1956، ظلّت العلاقة بين مصر والسودان تتأرجح بين التقارب والتوتر، لكنّ الثوابت الاستراتيجية ظلت قائمة، وأهمها أن استقرار السودان يُعد ضرورة أمنية لمصر، تمامًا كما أنّ أي اضطراب في الخرطوم ينعكس فورًا على القاهرة. وتزداد هذه الأهمية اليوم، مع اشتعال الحرب بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حيث تبنّت مصر موقفًا داعمًا للجيش، بينما وقفت الإمارات وإثيوبيا مثلاً، في المعسكر المقابل، داعمةً قوات الدعم السريع. لكن ومع ذلك هنالك أبعادًا ظرفية وعسكرية وجيوسياسية تفسّر الدعم المصري للجيش السوداني.

 

البعد الظرفي: فمنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتخذت مصر موقفًا واضحًا بدعم الجيش السوداني باعتباره “القوة الشرعية” في البلاد. هذا الدعم ليس فقط سياسيًا أو دبلوماسيًا، بل يُعتقد أن القاهرة قدّمت مساعدات عسكرية مباشرة، بما في ذلك إمدادات أسلحة وتدريب عسكري لقوات الجيش.

 

من الناحية الشعبية، هناك تعاطف مصري واسع مع الجيش السوداني، حيث يُنظر إليه كحامٍ لوحدة السودان واستقراره، بينما يُنظر إلى قوات الدعم السريع باعتبارها ميليشيا متمردة تهدد الأمن الإقليمي.

 

في المقابل، شنت قوات الدعم السريع حملات إعلامية تحذر الحكومة المصرية من “التدخل السافر” في الشأن السوداني، متهمة إياها بمحاولة إبقاء الجيش السوداني في السلطة لحماية المصالح المصرية. وكانت حادثة الجنود المصريين في مروي.. نقطة التحوّل، فعندما اندلعت الحرب في أبريل 2023، احتجزت قوات الدعم السريع جنودًا مصريين كانوا في قاعدة مروي الجوية، ونشرت مقاطع فيديو لهم كرهائن في رسالة سياسية واضحة. أثارت هذه الحادثة غضبًا رسميًا وشعبيًا في مصر، وعززت موقف القاهرة الداعم للجيش السوداني. إضافة إلى ذلك، اتّهم قائد قوات الدعم السريع، حميدتي، مصر بدعم الجيش عبر إمدادات عسكرية، بل وزعم أن الطائرات المصرية استهدفت مواقع قواته في ولاية سنار. هذه الادعاءات، حتى لو نفتها القاهرة رسميًا، تؤكد أن العلاقة بين الطرفين بلغت مستوى متقدّمًا من العداء.

 

البعد العسكري: الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في المنطقة

 

من منظور أمني، يأتي دعم مصر للجيش السوداني في سياق استراتيجي طويل الأمد يهدف إلى ضمان استقرار السودان كحليف عسكري وشريك في تأمين المنطقة الحدودية بين البلدين. فالسودان يمثل خط الدفاع الجنوبي لمصر، حيث تمتد الحدود المشتركة بينهما لمسافة 1,276 كيلومترًا، وهي حدود لطالما شكلت مصدر قلقا أمنيا للقاهرة، خاصة في ظل تصاعد تهديدات الجماعات المسلحة، وتزايد النفوذ الإقليمي للقوى الخارجية مثل تركيا والإمارات في البحر الأحمر. ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، وجدت مصر نفسها في موقف لا يسمح لها بالحياد، خاصة بعد حادثة احتجاز الجنود المصريين في قاعدة مروي، والتي كشفت هشاشة الوضع الأمني ودفعت القاهرة لتقديم دعم مباشر للجيش السوداني.

 

ومن الناحية العسكرية، ترتبط القاهرة والخرطوم بعلاقات تعاون دفاعي عميقة، حيث أجرت الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة مثل مناورات “حماة النيل” في مايو 2021، والتي كانت رسالة واضحة ضد أي تهديدات قد تطال استقرار السودان ومصر، بما في ذلك التوترات مع إثيوبيا حول سد النهضة. كما تمتلك مصر مصالح أمنية في الحفاظ على جيش سوداني قوي قادر على تأمين المجال الجوي والحدود، خاصة في ظل تصاعد تهديدات الجماعات المسلحة في دارفور وكردفان، التي قد تمتد تداعياتها إلى جنوب مصر إذا تفكك الجيش السوداني.

 

البعد الجيوسياسي والأمن الإقليمي: منع الانهيار والفوضى المسلحة

 

أما من الناحية الجيوسياسية، تدرك مصر أن سقوط الجيش السوداني أمام قوات الدعم السريع يعني تحول السودان إلى ساحة صراع مستمرة، على غرار السيناريو الليبي، مما قد يؤدي إلى موجات لجوء غير مسبوقة، وتصاعد النفوذ غير الرسمي للمليشيات المدعومة إقليميًا، وهو أمر ترى القاهرة أنه يقوض الأمن الإقليمي. ولهذا، دعمت مصر بقاء الجيش كقوة مركزية قادرة على منع تفكك السودان، حيث شهدت مصر في العقود الماضية كيف أدى انهيار الجيوش النظامية إلى تفكك دول مثل ليبيا واليمن، وخلق فراغ أمني تستغله الجماعات المتطرفة والقوى الإقليمية. يُضاف إلى ذلك أن مصر تنظر إلى البحر الأحمر كمنطقة نفوذ استراتيجي، حيث تسعى للحفاظ على توازن القوى هناك ضد النفوذ التركي والإماراتي، اللذين دعما الإسلاميين وقوات الدعم السريع بطرق غير مباشرة. ولذلك، تحاول القاهرة إبقاء السودان ضمن دائرة نفوذها، عبر دعم الجيش السوداني وضمان ألا تتحول الموانئ السودانية إلى قواعد إقليمية للقوى المنافسة. كما أن اتفاقيات إعادة الإعمار، والتي بلغت مليار دولار في شكل استثمارات ومساعدات تنموية، تعكس التزام القاهرة بإبقاء السودان ضمن محورها الاستراتيجي، وهو ما يفسر إصرارها على دعم الجيش السوداني كعامل استقرار وحليف في مواجهة التدخلات الأجنبية.

 

وإذا وسّعنا العدسة قليلاً، ونظرنا إلى الأمور من زاوية استراتيجية، فإن السودان يمثّل بوابة مصر إلى إفريقيا والأمن القومي المشترك. إذ تُدرك القاهرة أن استقرار السودان ليس خيارًا، بل ضرورة استراتيجية، فحدودهما البرية الطويلة تجعل السودان خط الدفاع الجنوبي لمصر، خاصة مع تزايد التهديدات في منطقة الساحل والصحراء وتنامي الحركات المسلحة العابرة للحدود. كما أن السودان يلعب دورًا رئيسيًا في تحقيق التوازن الإقليمي بين مصر وإثيوبيا، خصوصًا فيما يتعلق بملف الأمن المائي، حيث يمثل السودان عاملًا حاسمًا في أي معادلة تخص مياه النيل، التي تشكل 97% من مصادر المياه العذبة في مصر. وأيضًا يُعتبر البحر الأحمر شريانًا استراتيجيًا للبلدين، حيث تتحكم السودان في جزء مهم من ساحله الغربي، مما يجعل لمصر مصلحة مباشرة في ضمان عدم وقوع الموانئ السودانية في أيدي قوى إقليمية منافسة، ما يعزز نفوذ تلك القوى اقتصاديًا في المنطقة على حساب المصالح المصرية.

 

مصر والجيش السوداني: دعم غير مباشر واعتبارات استراتيجية

 

تساءل مراقبون، لماذا لم تتدخل مصر عسكريًا ضد الدعم السريع رغم دعمها للجيش السوداني، في الوقت الذي تبنّت فيه الإمارات موقفًا صريحًا في دعم قوات الدعم السريع، بينما لم يكن الموقف المصري بذات الوضوح في دعمه للجيش السوداني. فإنه على الرغم من أن القاهرة تساند الجيش السوداني سياسيًا ولوجستيًا، إلا أنها امتنعت عن التدخل العسكري المباشر، ويعود ذلك إلى عدة اعتبارات استراتيجية وعملية. أولًا، تدرك القاهرة أن أي تدخل عسكري في السودان سيضعها في مواجهة مباشرة مع لاعبين إقليميين مثل الإمارات وربما إثيوبيا، مما قد يُعقد وضعها في نزاعات متعددة، في وقت لا تزال فيه مصر تواجه تحديات أمنية واقتصادية داخلية. كما أن الحرب في السودان ليست نزاعًا ثُنائيًا واضح المعالم، بل هي حرب غير متكافئة، حيث تُسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من غرب السودان وخرطوم، مما يجعل التدخل العسكري المصري مغامرة غير محسوبة، قد تؤدي إلى استنزاف القوات المصرية في بيئة جغرافية صعبة.

 

ثانيًا، هناك قيود دولية على أي تدخل عسكري مصري في السودان، حيث تسعى واشنطن والاتحاد الأوروبي إلى احتواء الأزمة دون منح مصر تفويضًا بالتدخل، وهو ما يُفسر تركيز القاهرة على الحلول الدبلوماسية، مثل استضافة “مؤتمر دول جوار السودان” في يوليو 2023، ومؤتمر “الحوار السوداني-السوداني” في القاهرة عام 2025، كوسائل لدعم الجيش السوداني دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، تواجه مصر تحديات اقتصادية تجعلها غير قادرة على تحمل تكاليف تدخل عسكري مكلف، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها منذ 2022، مما يجعلها تعتمد على الدعم اللوجستي والدبلوماسي للجيش السوداني بدلًا من التدخل المباشر.

 

علاوةً على ما سبق، تُعد الإمارات المستثمر الأجنبي الأكبر في مصر، حيث بلغت قيمة الاستثمارات الإماراتية 65 مليار دولار بعد صفقة مشروع “رأس الحكمة”، وهي واحدة من أكبر الصفقات الاستثمارية في تاريخ مصر. كما تستهدف الإمارات رفع استثماراتها إلى 35 مليار دولار إضافية خلال العقد القادم في قطاعات الطاقة، النقل، الزراعة، والتكنولوجيا. إلى جانب ذلك، فإن هناك أكثر من 3000 شركة إماراتية تعمل داخل مصر، مما يجعل الاقتصاد المصري مرتبطًا بشكل وثيق بالمصالح الإماراتية. وهذا النفوذ الاقتصادي يجعل من الصعب على مصر اتخاذ موقف أكثر تصعيدًا تجاه الإمارات. فعلى الرغم من أن مصر ترى الجيش السوداني كضامن للاستقرار الإقليمي، إلا أن الضغط الاقتصادي يمنعها من تقديم دعم عسكري مباشر له، خوفًا من أي تداعيات قد تؤثر على تدفقات الاستثمار الإماراتي، أو تُهدد التعاون الاقتصادي القائم بين البلدين. إضافةً إلى ذلك، فإن مصر تعتمد على الإمارات كأحد أكبر شركائها في ملف تحويلات العاملين بالخارج، حيث بلغت 3.5 مليار دولار سنويًا، ما يزيد من صعوبة تبني موقف عدائي تجاه الإمارات في الصراع السوداني.

 

وبالتالي، فإن موقف مصر من الحرب السودانية يُمثل توازنًا دقيقًا بين الدعم الاستراتيجي للجيش السوداني، وتجنب التصعيد العسكري المباشر الذي قد يُدخلها في صدام غير محسوب مع قوى إقليمية أخرى.

 

ما الذي ينبغي على القاهرة فعله؟ رؤية استراتيجية لما يجب أن يكون الدور المصري في السودان

براغماتيًا، يجب أن تدرك القاهرة أن الجيش السوداني هو الحليف الوحيد القادر على تأمين حدود السودان مع إثيوبيا، خاصة في النزاع المستمر حول الفشقة، وهي منطقة زراعية استراتيجية تمتد على 600 كيلومتر مربع، وكانت مسرحًا لمواجهات عسكرية بين السودان وإثيوبيا خلال السنوات الماضية. قوات الدعم السريع، التي تحظى بعلاقة غير عدائية مع أديس أبابا، لا تمثل تهديدًا لإثيوبيا في هذا الملف، مما يجعلها خيارًا مفضلًا للحكومة الإثيوبية. وبالتالي، فإن أي ضعف أو تفكك في الجيش السوداني يعني تعزيز الموقف الإثيوبي في هذه النزاعات الحدودية، وتقويض القدرة المصرية على التنسيق العسكري والسياسي مع الخرطوم لمواجهة التحركات الإثيوبية.

 

وفوق ذلك، فإن قضية سد النهضة تمثل معضلة استراتيجية لمصر، حيث تعتمد على السودان كشريك في مواجهة الطموحات الإثيوبية في التحكم بمياه النيل. قبل اندلاع الحرب الأهلية، كان موقف الخرطوم أقرب إلى مصر، حيث دعمت الحكومة السودانية، بقيادة عبد الفتاح البرهان، مطالب القاهرة بالحصول على اتفاق قانوني ملزم حول تشغيل السد. أما الآن، فإن ضعف الجيش السوداني وانشغاله بالحرب الداخلية، يمنح إثيوبيا فرصة لاستغلال الوضع لصالحها، عبر محاولة فرض سياسة الأمر الواقع في ملف المياه. إذن، دعم الجيش السوداني يعني ضمان وجود حكومة مركزية قوية في الخرطوم تستطيع الوقوف في وجه التوسعات الإثيوبية، وهو ما يخدم المصالح المصرية على المدى الطويل.

 

أما في البحر الأحمر، فإن التعاون مع الجيش للسيطرة على الموانئ السودانية مثل ميناء بورتسودان تعتبر مسألة استراتيجية لمصر، حيث يمثل السودان شريانًا بحريًا مهمًا في شبكة التجارة الإقليمية. دعم الجيش السوداني سيحافظ على النفوذ المصري في المنطقة، ويمنع أي ترتيبات إقليمية قد تسمح لقوات الدعم السريع أو حلفائها بالحصول على منفذ بحري استراتيجي، مما قد يؤثر على التوازن الجيوسياسي في البحر الأحمر لصالح إثيوبيا أو قوى إقليمية أخرى.

 

الخاتمة: في الخلاصة، ومع تفاقم الحرب السودانية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وبروز مصر كلاعب رئيسي في دعم الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وعلى رغم أنّ هذا الدعم لم يكن مجرد موقف سياسي، إلا أنّ من نتائج ذلك أن تجلّى في منح مصر دورًا رئيسيًا في إعادة إعمار السودان، وهو ما عُدَّ مكافأة سودانية لموقف مصر الحازم في دعم الجيش ضد الدعم السريع. وفي منظور الحكومة السودانية، هذه المشاريع ليست فقط خطوة اقتصادية، بل تُعد امتدادًا لتحالف استراتيجي يُرسّخ الدور المصري في القرن الإفريقي، ويضمن أن يكون مصر جزءًا من منظومة أمنية واقتصادية تدعم المصالح السودانية في مواجهة التحديات الإقليمية.

شارك المقالة
مقالات مشابهة