لماذا لا تستطيع إسرائيل مهاجمة إيران منفردة؟!

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
04/28/2025
شارك المقالة

 

في معمار القوة الإقليمية المعاصرة، تحكم الضربات العسكرية الاستباقية قواعد صارمة ترتكز على موازين القدرات والنتائج، وليس على إرادة الفاعلين وحدهم. وفي هذا السياق المعقد، تبرز الأزمة بين إسرائيل وإيران كنموذج محوري لاختبار الحدود الدقيقة بين القدرة على الفعل والرغبة فيه.

رغم تصاعد خطاب التهديد الإسرائيلي، المتمثل في تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بوجوب “تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية بالكامل” على غرار النموذج الليبي عام 2003، ورغم تعهد إسرائيل بالتحرك المنفرد إذا اقتضت الضرورة، إلا أن ميزان الواقع العسكري والاستراتيجي يكشف عن معضلة وجودية حقيقية وهي أنّ إسرائيل، برغم قوتها العسكرية الاستثنائية على المستوى الإقليمي، لا تمتلك القدرة الذاتية الكافية لشن حرب شاملة ضد إيران أو لضمان نجاح ضربة جوية قاطعة لمنشآتها النووية بدون دعم أمريكي مباشر وشامل.

بالمقابل، يعكس الرد الإيراني الرسمي، كما جاء في تصريح عباس عراقجي، ثقة متزايدة بامتلاك أدوات الردع والمرونة الاستراتيجية التي تجعل أي اعتداء مكلفًا بشكل لا يمكن احتماله من قبل المعتدي.

انطلاقاً من هذه الثنائية، يرصد هذا التحليل عبر أربعة محاور استراتيجية مترابطة، البنية العميقة للعجز الإسرائيلي عن تحقيق أهدافه العسكرية تجاه إيران منفرداً، مع تفكيك مكونات القوة والضعف في هذا المشهد المركب.

 

معضلة تفوق الإرادة الإسرائيلية على قدرتها العسكرية الفعلية

 

يخطئ التحليل السطحي حين يقيس احتمالات الحرب استناداً فقط إلى الخطاب السياسي أو إلى التفوق النوعي الإسرائيلي التقليدي في المجال الجوي أو السيبراني. إذ أن جوهر المسألة لا يتعلق بما إذا كانت إسرائيل راغبة في التحرك ضد إيران، بل بمدى امتلاكها للأدوات الضرورية لتحقيق الهدف السياسي المعلن وهو التدمير الشامل لبرنامج إيران النووي، أو على الأقل تعطيله لمدة زمنية ذات مغزى استراتيجي.

 

في هذا الإطار، تواجه إسرائيل معضلة “الإرادة مقابل القدرة”. فالإرادة السياسية الإسرائيلية بالتحرك، والتي يغذيها الإحساس بالتهديد الوجودي من سلاح نووي إيراني محتمل، تصطدم بحدود القدرة العملياتية المادية.

 

فالمنشآت النووية الإيرانية، وعلى رأسها موقعا “نطنز” و”فوردو”، مصممة هندسياً لتحمل ليس فقط هجمات بالقنابل الذكية العادية، بل أيضاً القنابل الخارقة من الجيل القديم، عبر تحصينات تدمج عمقاً جغرافياً في باطن الأرض، وعناصر تشتيت حرارية، ونظم دفاع متعددة الطبقات.

 

القنابل الخارقة للتحصينات التي تمتلكها إسرائيل، مثل GBU-28، قد تحقق اختراقاً محدوداً، لكنها غير قادرة عملياً على الوصول إلى الأعماق اللازمة لتدمير المكونات الحساسة للبرنامج النووي، خصوصاً في “فوردو” الذي يقع تحت جبل بارتفاع مئات الأمتار من الصخور.

 

الأمر لا يقتصر على نوعية الذخائر؛ بل يتعلق بطبيعة المنصات الناقلة لها. إذ لا تمتلك إسرائيل طائرات قاذفة ثقيلة قادرة على حمل قنابل بوزن 30 ألف رطل مثل “GBU-57” (مخترق التحصينات الأميركي العملاق)، ولا تستطيع طائراتها التكتيكية (F-15I أو F-35I) أن تؤدي هذا الدور إلا ضمن هامش محدود جداً، ومع تحميل محدود للذخائر.

 

هكذا، يصبح السيناريو الواقعي لعملية عسكرية إسرائيلية مستقلة محدوداً جوهرياً بطبيعته. هجوم ذو تأثير تكتيكي محدود لا يؤدي إلى انهيار القدرات النووية الإيرانية، بل ربما يؤدي إلى تسريعها عبر منح إيران ذريعة استراتيجية للمضي في مشروعها النووي بشكل سري ومكثف عبر الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والبدء بتركيب القنبلة النووية.

 

بمعنى آخر، القدرة الإسرائيلية، رغم قوتها الهائلة على المستوى الإقليمي، لا تستطيع أن تحسم النتيجة الاستراتيجية المطلوبة على ساحة العمليات الإيرانية دون دعم أميركي مباشر يشمل الذخائر الخاصة، منصات الإطلاق، والدعم الاستخباراتي اللوجستي.

 

معضلة العمق الاستراتيجي والقيود الجغرافية على العمليات الجوية الإسرائيلية

 

لا يمكن فهم حدود القدرة الإسرائيلية على ضرب المنشآت النووية الإيرانية دون تحليل ما يمكن تسميته بـ”مأزق العمق الاستراتيجي”، الذي يشكل واحداً من أعقد الإشكاليات العملياتية في أي سيناريو هجوم جوي إسرائيلي على إيران.

 

إسرائيل، ككيان صغير جغرافيًا، اعتادت على خوض صراعات قصيرة الأمد ضد جيرانها المباشرين ضمن نطاقات عملياتية ضيقة نسبياً. أما التحدي الإيراني، فهو تحدٍ بعيد المدى، يتطلب إسقاط منظومة العمليات التقليدية الإسرائيلية واستبدالها بمنظومة قادرة على خوض عمليات جوية معقدة عابرة للقارات في بيئة معادية بطبيعتها.

 

المسافة بين القواعد الجوية الإسرائيلية وأقرب هدف إيراني استراتيجي تتجاوز 1500 كيلومتر في الحد الأدنى. يتطلب ذلك قدرات متقدمة على التزود بالوقود جواً، وهو المجال الذي لا تزال فيه إسرائيل تعتمد على أسطول قديم من طائرات التزود بالوقود KC-707 “رييم”، وهي طائرات ذات موثوقية محدودة، وقدرة محدودة على مرافقة تشكيلات كبيرة من المقاتلات لمسافات طويلة.

 

ورغم أن إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة شراء طائرات KC-46 Pegasus الحديثة، التي توفر قدرات تزويد بالوقود أكثر كفاءة وحماية إلكترونية أعلى، إلا أن عملية التسليم كانت بطيئة، مما يجعل الاعتماد على القدرات القائمة أمراً حتمياً في أي عملية محتملة في المستقبل القريب. هذا القيد وحده يُحجِّم حجم الهجوم الإسرائيلي الممكن، ويُلزم المخططين العسكريين الإسرائيليين بالتضحية إما بكمية الذخائر المحمولة أو بزمن البقاء فوق الأهداف لضمان العودة الآمنة.

 

يضاف إلى ذلك أن الوصول إلى الأهداف الإيرانية يتطلب العبور فوق دول عربية رئيسية مثل الأردن والعراق وربما السعودية. وبالتالي فإن الرهان على تعاون صريح أو ضمني وقت العمليات الفعلية يعد مغامرة عالية المخاطر. ففتح الأجواء العربية أمام طائرات هجومية إسرائيلية يمكن أن يشعل اضطرابات إقليمية عميقة، ويهدد مصالح هذه الدول التي تحرص على إظهار موقف محايد تجاه الصراع الإيراني-الإسرائيلي.

 

كذلك، أي استخدام للمجال الجوي بدون إذن مسبق يعرض الطائرات الإسرائيلية لخطر التعقب والاستهداف بأنظمة دفاع جوي حديثة، سواء من قبل الدول المعنية أو من قبل الحلفاء الإيرانيين الإقليميين الذين قد يتم تنبيههم مسبقاً.

 

هنا تبرز مسألة أخرى لا تقل أهمية وهي محدودية قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات بحث وإنقاذ خلف خطوط العدو في حال إسقاط إحدى طائراتها. عملية إسقاط طائرة إسرائيلية فوق العراق أو إيران، وما يليها من أسر الطيارين أو عرضهم على الإعلام، ستكون كارثة استراتيجية ليس فقط على المستوى العسكري، بل على مستوى الحرب النفسية والسياسية أيضاً.

 

في المجمل، تفرض الجغرافيا قيوداً صارمة على أي عملية إسرائيلية مستقلة ضد إيران: طول المسافة، حاجات التزود بالوقود، غموض مواقف الدول الوسيطة، وانعدام قدرات الإخلاء القتالي، كلها عوامل تجعل من فكرة الضربة الجوية الشاملة دون دعم أمريكي ضرباً من المقامرة الاستراتيجية الخطيرة.

 

 الطبيعة الشبكية واللامركزية للبرنامج النووي الإيراني كعائق بنيوي أمام الضربات التقليدية

 

إن إحدى أعقد الحقائق التي تجعل فكرة الضربة الإسرائيلية المنفردة ضرباً من الأوهام الاستراتيجية تكمن في البنية الشبكية واللامركزية التي يتمتع بها البرنامج النووي الإيراني. فمنذ البداية، صُمم هذا البرنامج بحيث لا يكون هدفاً مركزياً يسهل تدميره عبر ضربة واحدة أو حتى عدة ضربات مكثفة، بل بني كنسق موزع يحاكي في طبيعته “نظرية الشبكة المقاومة للهجمات”، المعروفة في الأدبيات العسكرية بـ”شبكات الصمود Resilient Networks”.

 

بعبارة أخرى، يتوزع البرنامج النووي الإيراني على عشرات المواقع، تختلف طبيعتها من حيث الأهمية، لكنها متكاملة وظيفياً. من منشآت تخصيب اليورانيوم مثل “نطنز” و”فوردو”، إلى مواقع إنتاج أجهزة الطرد المركزي، إلى مراكز البحوث المرتبطة بتطوير رؤوس نووية، إلى منشآت تحويل المواد النووية، إلى مفاعلات الماء الثقيل كما في “آراك”، وغيرها.

 

هذه الهيكلية اللامركزية تعني أن تدمير منشأة أو حتى عدة منشآت لا يؤدي بالضرورة إلى انهيار كامل للبرنامج، بل قد يؤدي فقط إلى تعطيله جزئياً لفترة زمنية محدودة، لا تمنع إيران من إعادة البناء مستندة إلى القدرات الاحتياطية القائمة أو المعرفية المكتسبة.

 

في هذا السياق، تفشل الضربة العسكرية الإسرائيلية المنفردة في تلبية أحد أهم معايير “النجاح الاستراتيجي” لأي عملية عسكرية استباقية ضد برنامج نووي، كما حدده المفكر العسكري الأميركي “كولن غراي”: تحقيق تدمير كلي أو شبه كلي للقدرات الحيوية، مع فرض تكلفة إعادة بناء باهظة ومستعصية زمنياً.

 

من الناحية الاستخباراتية، رغم التقدم الكبير الذي تحققه أجهزة المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في كشف وتعطيل بعض جوانب البرنامج النووي الإيراني عبر عمليات سرية معقدة (مثل الاستيلاء على الأرشيف النووي الإيراني عام 2018)، إلا أن الطبيعة الشبكية للبرنامج تجعل من المستحيل امتلاك “بنك أهداف” كامل ومحدث بشكل لحظي لكل عناصر البنية النووية الإيرانية.

 

وحتى لو افترضنا جدلاً امتلاك إسرائيل معلومات دقيقة عن جميع الأهداف، فإن تنفيذ ضربة جوية على هذا العدد الكبير من المواقع يتطلب حجم طلعات جوية، وذخائر دقيقة التوجيه، وقدرات تنسيق عملياتي يتجاوز قدرات إسرائيل المنفردة.

 

علاوة على ذلك، تنتهج إيران استراتيجية “الازدواجية” داخل منشآتها، أي بناء منشآت نووية مدنية يمكن تحويلها إلى منشآت عسكرية بسرعة، مما يزيد من مرونة البرنامج، ويصعّب التفريق العملياتي بين أهداف عسكرية مشروعة وأهداف مدنية، ما يؤدي إلى معضلة سياسية استراتيجية تتمثل في احتمال تعريض المدنيين للخطر، وما يترتب على ذلك من تداعيات دولية قد تنزع الشرعية عن أي عملية إسرائيلية.

 

ولذلك، فإن الهجوم الإسرائيلي على برنامج بهذه البنية لن يؤدي إلى “تدمير القدرة النووية الإيرانية”، بل إلى تأخير مؤقت ومحدود يمكن تجاوزه تقنياً خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً (تتراوح بين عدة أشهر إلى بضع سنوات)، مع دفع إيران إلى اعتماد استراتيجية نووية أكثر سرية واندفاعية، أي التحول من برنامج “معلن وشبه خاضع للرقابة” إلى برنامج “مظلم ومحصن” خارج نطاق الاتفاقات الدولية.

 

لماذا لا تستطيع إسرائيل تحمل العزلة العملياتية

 

في الأدبيات الاستراتيجية الحديثة، تتطلب أي عملية عسكرية كبرى ناجحة ثلاثة أركان أساسية: التفوق العملياتي، الشرعية الدولية، والدعم الاستراتيجي متعدد الأبعاد. إن غياب أي من هذه الأركان يُفضي غالباً إلى فشل العمليات أو تحول النجاح التكتيكي إلى خسارة استراتيجية على المدى البعيد.

 

بالمعايير الثلاثة، نجد أن إسرائيل، في حال إقدامها على ضرب إيران منفردة، ستعاني من فراغ قاتل في الركيزة الثالثة.

 

ففي ضوء الانقسام السياسي الدولي الحاد حول إيران، خاصة بين الولايات المتحدة وأوروبا، فإن الشرعية العملياتية الإسرائيلية، التي تعتمد عادة على حشد توافقات غربية وراء تحركاتها، ستكون في أدنى مستوياتها منذ عقود.

 

من زاوية أخرى، حتى على المستوى العملياتي البحت، لا يمكن لإسرائيل أن تحقق ما يسمى “الكتلة الحرجة” المطلوبة لهجوم ناجح ضد برنامج معقد بحجم البرنامج الإيراني، دون مساهمة أمريكية حيوية في مجالات مثل:

 

  • الضربات السيبرانية المعمقة لتعطيل منظومات الدفاع الجوي الإيراني واستخبارات القيادة والسيطرة.
  • استخدام قاذفات استراتيجية أمريكية: (B2) و(B52) القادرة على إيصال أسلحة اختراقية ضخمة إلى عمق الأهداف المحصنة.
  • التزود الجوي الواسع النطاق، خصوصاً من طائرات KC-46 و KC-135 الأمريكية.
  • الدعم الاستخباراتي الفوري عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة الشبكية: مثلMQ-9 Reaper  أو RQ-4 Global Hawk، وهو ما تفتقر إسرائيل إلى توفيره بشكل مستقل في ساحة عمليات بحجم إيران.

 

هكذا، فإن العزلة العملياتية ليست مجرد مخاطرة، بل معضلة وجودية. فالعملية الإسرائيلية لن تكتمل من حيث الأثر إلا إذا تحققت معها “كتلة استراتيجية حرجة” من الدعم الأمريكي العلني أو الضمني.

 

حتى في سيناريو الضربة الناجحة جزئياً، ستحتاج إسرائيل إلى الدعم الأميركي اللاحق لاحتواء تداعيات الرد الإيراني، سواء من خلال الدفاع الصاروخي المشترك، أو من خلال الضغط السياسي الدولي لمنع انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة.

 

خاتمة

 

يتبين من التحليل الاستراتيجي الجيوسياسي أن إسرائيل، رغم كل مظاهر تفوقها التكنولوجي والعسكري، تقف أمام جدار صلب من الحقائق الاستراتيجية التي تحد من قدرتها على العمل الأحادي تجاه إيران.

محدودية قدرات تدمير المنشآت النووية الإيرانية المحصنة، القيود اللوجستية الجغرافية، الطبيعة الشبكية للبرنامج النووي الإيراني، وغياب الركيزة الدولية الاستراتيجية، كلها عوامل تجعل من أي مغامرة عسكرية إسرائيلية منفردة خياراً بالغ الخطورة ومحدود الجدوى.

تصريحات نتنياهو، على قوتها السياسية، تصطدم بواقع عملياتي وإستراتيجي لا يسمح لإسرائيل بالتكرار السهل لنموذج “عملية أوبرا” (ضرب مفاعل تموز العراقي عام 1981) في السياق الإيراني الحالي.

أما الجانب الإيراني، كما عبر عنه عباس عراقجي، فهو يدرك جيداً هذه الحقائق، ولذلك يعتمد سياسة “التفاوض مع إدارة ترامب مع الردع المتدرج”، حيث تبني إيران قدراتها على الصمود والرد، مع الحفاظ على قابلية التفاوض حين تقتضي الظروف.

من هنا، فإن أي قرار إسرائيلي بالمضي قدماً نحو مواجهة مفتوحة مع إيران سيكون قراراً بانتحار استراتيجي ما لم يكن جزءاً من تحرك دولي واسع ومتكامل، يتجاوز حدود الفعل الأحادي إلى بناء معادلة جديدة من التحالفات والشرعيات العابرة للأقاليم.

شارك المقالة
مقالات مشابهة