كيف نقرأ القصف الأمريكي على اليمن؟ وهل يحقق أهدافه الاستراتيجية؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
04/07/2025
شارك المقالة

 

تُمثل الهجمات الجوية التي تشنها إدارة ترامب ضد جماعة الحوثي في اليمن لحظة اختبار كاشفة لمعادلة القوة والتأثير في بيئة إقليمية معقدة، تتشابك فيها المصالح المحلية بالمصالح الدولية، ويصعب فيها الفصل بين ما هو تكتيكي وما هو بنيوي. لقد تجاوزت هذه الحملة كونها ردًا مباشرًا على تهديد أمني محدود لحرية الملاحة، لتصبح جزءًا من مشهد أوسع يُعاد فيه تشكيل مفاهيم الردع، والوكالة، والسيطرة، في سياق يتسم بتداخل الفواعل النظامية وغير النظامية.

 

لا يُمكن اختزال هذا التصعيد العسكري في كونه مجرد رسالة إلى إيران، كما لا يمكن قراءته باعتباره مشروعًا لإعادة هندسة الداخل اليمني بالقوة. ما يتطلبه التحليل هو تفكيك الأبعاد المركبة للسلوك الأميركي، وفهم ما إذا كان هذا التصعيد يُعبّر عن استراتيجية متكاملة، أم أنه يُجسد مأزقًا في إدارة صراعات غير متكافئة.

 

وفي هذا الإطار، تبرز الحاجة لتحليل هذا السلوك من خلال أربعة مستويات مترابطة: حدود الفعالية الجوية، تطور القدرات الصاروخية للحوثيين، البنية العملياتية في البحر الأحمر، والتحديات المرتبطة بموقع المضائق في الاستراتيجية الإقليمية.

 

مأزق الاستراتيجية الأميركية في اليمن

 

منذ اللحظة التي باشرت فيها إدارة ترامب تصعيدها العسكري تجاه الحوثيين، بدا أن خيار الضربات الجوية سيُشكّل الأداة المركزية للضغط، بل وربما “القضاء” على الجماعة. لكن هذا التصوّر، الذي يستبطن إيمانًا تقليديًا بقوة التفوق العسكري الأميركي، يُخفي في طيّاته معضلة معرفية ومنهجية عميقة وهي هل يمكن إخضاع كيان غير تقليدي متجذّر في بيئة اجتماعية وعقائدية معقدة، عبر أدوات القوة الجوية وحدها؟

 

يبدو أن التقديرات الأولية للإدارة الأميركية استندت إلى قراءة تقليدية للقدرة الجوية الأميركية، والتي لا شك أنها مذهلة في تفاصيلها التقنية: منظومة  ISR (الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع) بالغة الدقة، طائرات قاذفة استراتيجية من طراز B-1B وB-52، صواريخ كروز تُطلق من مدمرات منتشرة في البحر الأحمر، وقنابل خارقة للتحصينات مثل GBU-57، بالإضافة إلى دعم استخباراتي عالي المستوى يتمركز في القاعدة الأمريكية “كامب ليمونيه” في جيبوتي. لكن السؤال الأكثر جوهرية لا يتعلق بإمكانية إصابة الأهداف، بل بمدى قدرة هذا النوع من الهجمات على تفكيك الجماعة الحوثية، لا فقط تحجيم قدرتها.

 

المعضلة هنا ليست عسكرية بحتة، بل بنيوية. فالضربات الجوية، بقدر ما تُحقق إصابات موضعية عالية الكفاءة، تصطدم بطبيعة الحوثيين كجسم مقاوم شبكي، لا ينتمي إلى بنية جيش نظامي يمكن شلّه عبر تدمير مقراته أو قطع خطوط إمداده. الجماعة ليست فقط وحدات قتالية، بل بنية هرمية مرنة تمتد عبر مستويات متعددة: من القيادة العقائدية في صعدة، إلى جهاز استخبارات مستقل، إلى شبكة تموضع اجتماعي داخل القبائل الزيدية، وصولًا إلى منظومة دعم لوجستي عابرة للجغرافيا اليمنية التقليدية. وبفعل هذا التداخل بين العسكري والاجتماعي والديني، يصبح “القضاء” على الحوثيين مشروعًا معقدًا يتجاوز القدرة النارية الأميركية.

 

لقد أثبتت الأدبيات الكلاسيكية في الدراسات الاستراتيجية هذا المأزق منذ عقود. جوليو دوهيه وروبرت بيب في تحليلهما للعجز الجوي في حروب العصابات، أوضحا أن التفوق الجوي يفشل حين يكون الخصم متمركزًا داخل شبكة اجتماعية تمنحه حماية غير مباشرة ضد الهجمات النارية المباشرة. بيئة الحوثيين الجغرافية، بما تتضمنه من تضاريس جبلية صلبة وممرات معقدة، تُعزز من هذا الحصن الطبيعي، فيما تجعل الشرعية الرمزية التي يحوزونها بين قواعدهم الشعبية، خصوصا بعد تدخلهم المباشر إلى جانب أهل غزة، أي اختراق جوي بمثابة مغامرة خاسرة مسبقًا.

 

في هذا السياق، تصبح الضربات الجوية فعلًا تكتيكيًا عالي الأداء، لكنه محدود الأثر في هندسة النصر الاستراتيجي. صحيح أن الضربات قد تعطل مؤقتًا منشآت إطلاق الطائرات المسيّرة، أو تُربك منظومة القيادة والسيطرة، وقد تشلّ، ولو جزئيًا، القدرة على تهديد الملاحة الدولية في باب المندب، إلا أن كل ذلك يظل ضمن إطار الردع الوقتي لا التفكيك الدائم. فالحوثيون أثبتوا قدرة متكررة على إعادة التموضع، وإخفاء مراكز القيادة، وتغيير خطوط الإطلاق، بل واستغلال الضربات ذاتها لبناء سردية رمزية جديدة تعزز من مشروعهم.

 

وهكذا، تتحول الضربات الجوية في عهد ترامب إلى ما يمكن تسميته بـ”التدخل الأداتي”: أداة لإرسال رسائل سياسية، أو لمراكمة نقاط ضغط، لكنها تفتقر إلى هندسة استراتيجية واضحة تؤسس لتحول جذري في موازين القوى. بل يمكن القول إن الإدارة الأميركية، عبر اعتمادها المفرط على الطيران دون بناء تحالف بري محلّي فاعل، قد رسخت ما يسميه البعض بـ”الردع الدائري”، أي حالة من الدوران في حلقة العنف دون تقدم نحو حسم نهائي.

 

والأدهى من ذلك، أن الرهان على “الحسم من الجو” قد يمنح الحوثيين، وربما إيران من خلفهم، فرصة ثمينة لتطوير خطاب “الضحية المقاومة”، وإعادة حشد التأييد الاجتماعي المحلي والدولي، في مشهد يعيد تكرار نماذج مشابهة شهدناها مع حزب الله في 2006 أو حركة طالبان خلال العقدين الأخيرين.

 

مسارات الاستقلال الاستراتيجي في ظل التقاطع مع إيران

 

لم تعد جماعة الحوثي تُمثل، في بنيتها الحالية، مجرد فاعل محلي داخل الحرب اليمنية. لقد تدرجت، عبر صيرورة طويلة من الصراع، لتصبح كيانًا عسكريًا-سياسيًا يمتلك ما يُشبه قدرة ردعية مستقلة ضمن المشهد الجيوأمني للمنطقة. هذا التحول لا يمكن تفسيره فقط عبر أدوات الدعم الخارجي، ولا عبر ارتباطات إقليمية ظرفية، بل ينبع من قدرة الجماعة على تطوير عقيدة قتال ذاتية، وإنشاء بنية عسكرية مركبة، والاستثمار في خطاب تعبوي محلي قادر على توليد الشرعية والسيطرة في آنٍ معًا.

 

التطور الأهم خلال السنوات الماضية هو تمكن الحوثيين من بناء منظومة صاروخية هجومية بعيدة المدى، قادرة على التأثير خارج حدود اليمن، كما ظهر في إطلاقهم صواريخ تجاه إسرائيل. هذه القدرة لم تأتِ كنتيجة مباشرة للقرار الإيراني أو كامتداد أوتوماتيكي لعقيدة “محور المقاومة”، بل عبر دينامية تلاقٍ مصالح بين طرفين: إيران، التي ترى في تعزيز الضغط البحري والجوي على إسرائيل والغرب فرصة استراتيجية منخفضة التكلفة؛ والحوثيين، الذين وجدوا في هذا النوع من الاصطفاف ظرفيًا فرصة لإعادة تأكيد ذاتهم كقوة مستقلة تتجاوز البعد اليمني الضيق.

 

الهجمات الأخيرة التي شنها الحوثيون، لا سيما تلك التي استهدفت مناطق إسرائيلية بصواريخ تحمل مواصفات باليستية وفرط صوتية متقدمة، تعكس تطورًا لافتًا في البنية التقنية للجماعة. غير أن الأهم من الجانب التقني هو المسار الرمزي والوظيفي لهذا التحول: فالحوثيون لم يعودوا يعبّرون فقط عن مصالح محلية شمالية، أو عن مظلومية اجتماعية مرتبطة بإقصائهم في مراحل ما بعد الوحدة اليمنية، بل أصبحوا يعيدون تشكيل أنفسهم كقوة سياسية-عسكرية لها رؤية مستقلة للمنطقة، ولموقعهم داخلها.

 

لا شك أن الدعم الإيراني، سواء كان على شكل تدريب، أو تكنولوجيا، أو مشورة، لعب دورًا في هذا التحول، لكن تقليص الظاهرة الحوثية إلى مجرد “امتداد إيراني” يُجرد الجماعة من قدرتها الذاتية، وينكر عناصر القوة الفعلية التي بنتها في الميدان.

 

الهجمات الصاروخية على إسرائيل لا يمكن فهمها فقط بوصفها تنفيذًا لإرادة خارجية، بل باعتبارها استثمارًا رمزيًا وميدانيًا في إعادة تعريف الجماعة لدورها كفاعل في بيئة صراع أوسع من اليمن. فالمعادلة التي يسعى الحوثيون لفرضها هي أنهم طرف إقليمي صاعد، قادر على تهديد العمق الإسرائيلي من دون المرور عبر الجغرافيا اللبنانية أو السورية، وهو بذلك يطمح للتموضع كطرف ثالث في معادلة الردع، لا فقط كأداة دعم.

 

من جهة أخرى، فإن الاستفادة الإيرانية من هذه العمليات لا تعني تحكمًا مباشرًا بها. طهران تقرأ بعناية نتائج هذه الهجمات، تراقب رد فعل الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وتُحلل مدى فعالية أنظمتها، وهو ما يمدّها ببيانات تجريبية ثمينة. لكن من الخطأ الجسيم القول إن الحوثيين يُطلقون صواريخهم لأجل إيران، أو أن إيران توجههم تفصيليًا. الصحيح أن هناك بيئة تكافلية مرنة، يتم فيها تقاطع الخبرات، وتبادل التكنولوجيات، وخلق مناخ يسمح لكلا الطرفين بتعزيز مواقعهما دون خضوع طرف للآخر.

 

البحر الأحمر.. ساحة لإعادة تعريف الجغرافيا العملياتية

 

في خضم التصعيد الأميركي ضد الحوثيين، يبرز البحر الأحمر بوصفه أكثر الساحات حساسية وهشاشة في الوقت نفسه. إنه ليس مجرد مسرح ثانوي تتقاطع فيه الممرات البحرية مع شبكات التهريب والقرصنة، بل هو في بنيته الجيوسياسية الجديدة مختبر حي لمعادلة التحكم والتحكم المعاكس بين الولايات المتحدة من جهة، والحوثيين كفاعل شبكي مرن من جهة أخرى.

 

من الناحية العملياتية، يمثل التموضع الحوثي في سواحل الحديدة والصليف نقطة مركزية، لا من حيث القدرة الهجومية فحسب، بل من حيث التحكم في الإيقاع الرمزي والاستراتيجي للتصعيد. فميناء الحديدة لا يُستخدم فقط لإطلاق المسيّرات أو الصواريخ، بل هو نقطة تموضع تسمح للجماعة برصد الممر البحري في خط مباشر يمر عبر أكثر نقاط الملاحة حساسية في العالم وهو باب المندب. ومن هناك، تصبح كل ناقلة نفط، وكل سفينة شحن، وكل بارجة عسكرية، جزءًا من معادلة التهديد الممكن، حتى لو لم تُستهدف مباشرة.

 

هذا الشكل من التحكم لا يتأسس على السيطرة المباشرة، بل على ما يمكن تسميته بـ”السيطرة الكامنة”، وهي قدرة الفاعلين من غير الدول على فرض تكلفة محتملة على حركة الخصم دون الحاجة إلى الاشتباك المستمر. وهذا النمط من التهديد، الذي يُشبه شبحًا دائمًا يرافق خطوط الإمداد، يُجبر الولايات المتحدة على إبقاء مواردها العملياتية في حالة تأهب دائم، ما يخلق نزيفًا اقتصاديًا ومعنويًا غير مرئي، لكنه بالغ الأثر.

 

وفي مواجهة هذه البنية غير الخطية من السيطرة، حاولت واشنطن أن تُعيد رسم فضاء العمليات عبر تموضعها في “كامب ليمونيه” بجيبوتي، ونشر حاملات الطائرات والمدمرات البحرية في البحر الأحمر. هذه البنية العسكرية الكلاسيكية توفر للولايات المتحدة تفوقًا تقنيًا واستخباراتيًا ضخمًا، لكنها تُعاني من مشكلة مفصلية في التعامل مع التهديدات اللامتمركزة المتمثلة بالطائرات دون طيار، المسيّرات المفخخة، والصورايخ الباليستية، كلها تتحرك في فضاء غير قابل للسيطرة الكلية، وهو ما يجعل من هذه القوة العسكرية الضخمة رديفًا لليقظة المستمرة، لا للهيمنة المستقرة.

 

اللافت أن الحوثيين استطاعوا أن يُنتجوا ما يُشبه “هندسة اشتباك معكوسة”، يتم فيها تقييد حرية الحركة الأميركية رغم تفوقها العددي والتقني. فكل قطعة بحرية أميركية تُجبر اليوم على التحرك وفق قواعد اشتباك صارمة، وتحت ضغط الخوف من المفاجآت. هذه ليست بيئة هجومية، بل بيئة دفاع نشط ضد تهديد منتشر لا يُرى بسهولة، وهو ما يُعيدنا إلى مفهوم “التحكم المعاكس”.

 

وما يضاعف تعقيد هذا المشهد هو أن الاشتباك لا يتم فقط في الفضاء المادي، بل أيضًا في الفضاء الرمزي والإعلامي والسيبراني. فكل مرة يُعلن فيها الحوثيون عن استهداف سفينة أميركية أو “مرتبطة بإسرائيل”، لا يهم إن أصاب الهجوم أو أخطأ بقدر ما يهم إعادة رسم صورة السيطرة والتهديد، وتحويل البحر الأحمر من معبر دولي محايد إلى فضاء متنازع عليه. بهذا المعنى، فإن الحملة الحوثية ليست فقط سلسلة من العمليات، بل مشروعٌ لإعادة تعريف البحر الأحمر كجغرافيا صراع رمادي، لا تخضع للهيمنة الأميركية الكاملة.

 

إسرائيل، بدورها، وإن لم تكن فاعلًا مباشرًا في هذا الحيز البحري، إلا أنها حاضرة استخباراتيًا ومن خلال بنى التنسيق الدفاعي، وخاصة في قاعدة إيلات. لكنها في الوقت نفسه، تتحرك بقلق متزايد من سيناريو تصعيد مزدوج يأتي من الجنوب، على يد الحوثيين، ومن الشمال عبر حزب الله. هذه المخاوف عززت من نشر منظومات دفاع إضافية، ورفعت من مستوى التأهب على الجبهة الجنوبية. ولكنها لم تستطع أن تُنتج استجابة ردعية تمنع استمرار العمليات الحوثية، وهو ما يُعزز من فاعلية الجماعة بوصفها مُنتِجًا للتهديد منخفض الكلفة وعالي الأثر الرمزي.

 

في نهاية المطاف، فإن التحليل العملياتي للوجود الأميركي في البحر الأحمر لا يمكن فصله عن الطابع غير المتناظر للتهديد الحوثي. فالتفوق البحري الأميركي لم يُترجم إلى حسم، بل إلى حالة استنزاف موزّع، تُجبر البنتاغون على الحفاظ على وجود دائم، دون إمكانية حقيقية لفرض استقرار استراتيجي دائم. والنتيجة هي بنية اشتباك مفتوحة، تتسم بالتأرجح، وتضع الطرف الأقوى تقنيًا في موقع الدفاع المتوتر، وتُعطي الطرف الأضعف أدوات تحكم غير خطي، تُعيد عبرها صياغة موازين القوة دون الحاجة إلى السيطرة التقليدية.

 

خاتمة

 

إن المأزق الاستراتيجي الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم في اليمن لا ينبع فقط من عناد الخصم أو تعقيد البيئة، بل من قراءة قاصرة لطبيعة الفاعل الحوثي ووظائفه المستجدة. لقد باتت الجماعة تُمارس أدوارًا تتجاوز حدود الحرب الأهلية، وتُعيد تشكيل فضاءات النفوذ الإقليمي.

 

وفي مقابل تفوق أميركي تقني هائل، تُنتج الجماعة نموذجًا فريدًا من التهديد منخفض الكلفة وعالي التكرار، يُربك الحضور العسكري التقليدي، ويحوّل البحر الأحمر إلى حقل نزاع دائم تحت عتبة الحرب الشاملة. هذه ليست معركة يمكن حسمها من الجو، ولا صراعًا يُدار بمنطق الوكالة المباشرة، بل هي مواجهة متعددة الطبقات، تتطلب إعادة تعريف شاملة لأدوات الاشتباك الأميركي مع الفواعل غير النظامية المستقلة.

شارك المقالة
مقالات مشابهة