تظهر هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي في أشكال عديدة فهو العملة الاحتياطية الأكثر شيوعاً والعملة الأكثر استخداماً على نطاق واسع في التجارة الدولية وتسوية المعاملات الأخرى حول العالم.
ولكن السؤال هنا هو؛ ما العوامل التي هيأت الطريق للدولار كي يحتل تلك المكانة العالمية؟ وهل حقاً يتحكم الدولار في الاقتصاد العالمي؟
نجيب عن هذه التساؤلات من خلال تسليط الضوء على عدة محاور، نستخلص منها الإجابة، وهذه المحاور هي:
ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها الاقتصاد الرئيسي في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد تهتك بنية الاقتصادات الأوروبية بفعل آلة الحرب وبفضل سياسة العزلة التي كانت تحكم السياسة الخارجية الأمريكية والتي حمتها من التورط بشكل كبير في الحرب العالمية الثانية.
وقد بدأ تكريس دور الاقتصاد الأمريكي مع مؤتمر “بريتون وودز” الذي انعقد عام 1944. وبموجب نظام بريتون وودز، كان الدولار مرتبطاً بالذهب فيما عُرف بقاعدة الذهب، كما نجم عنه ارتباط العملات العديد من الأخرى بالدولار، ونتيجة لهذا الترتيب، اُستخدم الدولار كمعيار رئيسي في تحويلات سعر الصرف في السوق الدولية.
ثم جاء قرار الرئيس الأمريكي “نيكسون” بوقف عملية تحويل الدولار إلى ذهب، لينقض بذلك نظام بريتون وودز وليكرس وجود الدولار كمعلة احتياطيات دولية فيما عرف بـ “صدمة نيكسون”.
العملة الاحتياطية الأكثر شيوعاً
يمكن وصف العملة الاحتياطية بأنها عملة أجنبية يحتفظ بها البنك المركزي أو وزارة الخزانة كجزء من احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية لبلاده، وذلك لمواجهة الصدمات الاقتصادية، ودفع ثمن الواردات، وخدمة الديون.
ويعترف صندوق النقد الدولي بثماني عملات احتياطية رئيسية هي، الدولار الأمريكي، واليورو، والجنيه الإسترليني، والدولار الأسترالي، والدولار الكندي، واليوان الصيني، والين الياباني، والفرنك السويسري.
وقد أوردنا ءانفا كيف وجد الدولار طريقه ليتولى دور العملة الاحتياطية العالمية، ولنرى هل لازال الدولار الآن يحتل تلك المكانة أم تغير هذا الوضع؟
ووفقا للبيانات يظهر استمرار الدولار الأمريكي كونه العملة الاحتياطية الأكثر شيوعاً إذ يستحوذ على حوالي 58.4% من إجمالي الاحتياطي النقدي الأجنبي العالمي، بحسب بيانات الصندوق للربع الأخير من عام 2023، بفارق يقدر بنحو ثلاثة أضعاف حصة اليورو من الاحتياطيات الأجنبية والتي تبلغ 19.98%، ومقارنة بحصة بقية احتياطيات العملات الأجنبية مجتمعة باستثناء اليورو والبالغة 21.61%.
ويرجع هذا بشكل رئيسي إلى أن معظم التجارة الدولية ومدفوعات الديون مقومة بالدولار. كما يلقى الدولار دعماً إضافياً من قوة الاقتصاد الأمريكي باعتباره الأكبر في العالم بقيمة تقدر بنحو 28.78 تريليون دولار لعام 2024، ما يمثل أكثر من 26% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي العالمي المتوقع لهذا العام عند 109.53 تريليون دولار، بحسب توقعات صندوق النقد الدولي الصادرة أبريل 2024.
سيطرة الدولار على التجارة العالمية
تمثل العملة الأمريكية أكثر من 80% من التجارة الدولية، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي المعتمدة على أحدث بيانات نظام المدفوعات سويفت، في حين تبلغ حصة الدولار من فواتير التصدير 54% بحسب بيانات المجلس الأطلسي، مقارنة بحصة اليورو البالغة 30%، والحصة المقدرة بنحو 4% لكل من الجنيه الإسترليني والين الياباني واليوان الصيني.
وقد توثقت تلك العلاقة بين الدولار والسلع الأساسية تاريخيا بطرق غير اقتصادية في الكثير من الأحيان، أي أن ذلك الرابط الاقتصادي بين الدولار والسلع الأساسية طالما اعتبر ملفا سياسيا لدى الولايات المتحدة وذلك لضمان الحفاظ على مكانة الدولار عالميا.
ومن أمثلة ذلك ما يعرف بـ “بترودولار” وهو اصطلاح يطلق على ربط مبيعات النفط والغاز لدول الخليج العربي بالدولار الأمريكي مقابل توفير حماية عسكرية وسياسية للأنظمة الحاكمة.
وتكشف لنا ورقة بحثية أجراها بنك التسويات الدولية أنه في الماضي، عندما كانت الولايات المتحدة مستورداً للسلع الأساسية، كان ارتفاع أسعار السلع يتزامن مع انخفاض معدلات التبادل التجاري في أمريكا وضعف قيمة الدولار.
لكن الآن بعد أن أصبحت الولايات المتحدة دولة مصدرة للسلع الأساسية وبخاصة في الفترة التي تلت جائحة كورونا، انعكست هذه العلاقة تقريبا، وصار ارتفاع أسعار السلع يؤدي إلى رفع معدلات التبادل التجاري للبلاد وتعزيز قيمة الدولار في نهاية المطاف.
عملات تحتمي بالدولار الأمريكي
لجأت العديد من الدول على مر التاريخ إلى ربط عملتها بالدولار الأمريكي في محاولة لتجنب تقلبات سعر الصرف وإزالة الشكوك في المعاملات الدولية والحد من المخاطر الأخرى، مثل المخاطر السياسية، وهو أمر يمكن أن تستفيد منه الدول الصغيرة على وجه خاص، خاصة إذا كان المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومة يأتي في شكل الدولار.
على سبيل المثال، ربطت الصين اليوان بالدولار الأمريكي منذ عام 1994، لكنها فكت هذا الارتباط في عام 2005، واتجهت إلى نظام سعر الصرف المدار، في حين أعلنت هونغ كونغ ربط عملتها بالدولار في عام 2020، كما اتخذت دول أخرى النهج ذاته خلال العقود الماضية، ومنهم بنما، وجيبوتي، وكوبا، وإريتريا، والأردن، ولبنان.
وتظهر تلك الحالة بشكل جلي في ارتباط عملات بعض دول مجلس التعاون الخليجي بالدولار بما في ذلك، السعودية، والإمارات، والبحرين، وسلطنة عمان، وقطر، بينما ترتبط عملة الكويت بسلة من العملات يهيمن عليها الدولار أيضا.
وربما يتجلى البعد السياسي لهذا الوضع، عندما نرى كيف أن ذلك الوضع يؤثر سلبا على مرونة السياسة النقدية لهذه البلدان، إذ أنها تضطر للسير وفقاً للسياسة المتبعة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي فيما يخص قرارات أسعار الفائدة الرئيسية، بهدف الحفاظ على استقرار عملاتها المحلية مقابل الدولار، وهو ما يمثل تحدي اقتصادي حيث تحتاج تلك الدول إلى تأمين المزيد من الدولارات للحفاظ على النسبة المناسبة لاستقرار سعر الصرف، كما أنها لا تستطيع التحرك في السياسة النقدية بأريحية ووفقا لمقتضيات وضع الاقتصاد الحقيقي.
الدولار والقروض والعقوبات
إن مركزية الدولار في الاقتصاد العالمي تمنح الولايات المتحدة القدرة على خلق النقود الدولية بسهولة أكبر، وأيضا القدرة على فرض عقوبات دولية على الأنظمة، ما يعطيها فرصة للسيطرة والتحكم بالاقتصاد العالمي، وبالطبع تتحول هذه الميزة لعائق بالنسبة لبقية دول العالم.
ونظراً لتكبد العديد من الدول النامية ديوناً ضخمة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، فإنها تواجه ضغوطاً بسبب حاجتها المستمرة للدولار الأمريكي من أجل سداد ديونها خاصة في ظل الأزمات المتتالية في السنوات الأخيرة التي أدت إلى تسارع حاد لحجم ديون الدول.
وقد كشفت أزمة كورونا مؤخرا عن حقيقة مفادها أن الدول -في الحقيقة- تقوم بدفع ثمن مزيد من الدولار!
ففي خضم أزمة كورونا، قام الفيدرالي الأمريكي بضخ سيولة نقدية مباشرة في الاقتصاد قُدرت بنحو 5 ترليون دولار، وفي حين أن تلك الأموال صبت في جيوب الشركات الأمريكية والمواطن الأمريكي، ومن ثم وجدت طريقها لأسواق السلع، فإنها قد انعكست على باقي دول العالم بموجة تضخمية هائلة، ومن ثم ارتفاع جديد في فاتورة الدين العالمي.
وتشير البيانات لارتفاع الدين العام العالمي أكثر من أربعة أضعاف بين عامي 2000 و2022، وفقاً لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وهو ما يتجاوز بوضوح الناتج المحلي الإجمالي العالمي، الذي تضاعف ثلاث مرات خلال الفترة ذاتها، ليصل الدين العام العالمي إلى مستوى قياسي بلغ 92 تريليون دولار بحلول عام 2022.
وإضافة لأزمة الدين، فقد كانت لهيمنة الدولار على النظام الاقتصادي العالمي دوراً رئيسياً في تحوله إلى سلاح تستخدمه الولايات المتحدة ضد خصومها من خلال فرض العقوبات الاقتصادية وحرمانها من التعامل باستخدام نظام المدفوعات الدولية “سويفت”، بهدف تقويض قدرتها على مجابهة أهداف أمريكا السياسية.
وتعتبر إيران والصين وفنزويلا وروسيا من بين أبرز الدول التي تعرضت لعقوبات أمريكية منها ما يرجع لحروب تجارية، وأخرى بسبب النزاعات الدولية والمجابهات الجيوسياسية.
وقد زادت القيود التجارية الجديدة بشكل حاد – أكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2019 -، وفقاً للنقد الدولي، في حين توسعت العقوبات المالية أيضاً، وارتفع مؤشر المخاطر الجيوسياسية في عام 2022 بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
ولكن مع ذلك، فإن هذا السلاح الاقتصادي قد يرتد بآثار سلبية على الدولار في المدى البعيد، فقد كشف تحليل لبنك فرنسا إن تغيير تكوين الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي الروسي -على خلفية العقوبات- دفعت الشركات الخاصة في روسيا للتخلص من الدولار، ما حد من أهمية إصدار الشركات الفرنسية لفواتير التصدير بالعملة الأمريكية.
الهروب من الدولار إلى الدولار
بنهاية 2023، أصبحت العملة الأمريكية مستخدمة كعملة رسمية داخل أحد عشر دولة خارج الولايات المتحدة، من بينهم الإكوادور، والسلفادور، وزيمبابوي، وبنما وجزر مارشال، وبالاو، فضلاً عن استخدامها كعملة غير رسمية -موازية- بجانب العملة المحلية في عدد من البلدان، كما حدث مؤخرا في أزمة شح النقد الأجنبي في مصر.
ويعتبر التضخم هو أحد الأسباب الرئيسية التي قد تؤدي إلى قيام دولة ما بإدخال الدولار كعملة رسمية في نظامها المالي، فالبلدان التي لديها أسعار صرف أو عملات غير مستقرة تكون أكثر عرضة لهجمات المضاربة، والتي يمكن أن تخفض قيمة العملة المحلية بشكل كبير، كما حدث في أزمة النمور الآسيوية عام 1997، لذا يرى بعض الاقتصاديين الحل في إدخال العملة الأجنبية، بحيث يمكن للبلد تقليل الانخفاض المحتمل في قيمة العملة.
كما تذهب تلك الرؤية إلى أن إدخال الدولار الأمريكي في بلد ما يساعد في دمج اقتصاده في السوق العالمية بحيث يصبح جزء لا يتجزأ منه مما يمكن البلدان من المشاركة بشكل أكبر في التجارة الدولية، ومن ثم تعزيز استقرارها ونموها الاقتصادي، وبالطبع يفسح ذلك المجال لمزيد من دعائم سيطرة الدولار على المعاملات التجارية حول العالم.
محاولات مزاحمة الدولار على موقع الهيمنة
أخذت محولات إزاحة الدولار عن موقع الهيمنة شكلاً جدياً خلال السنوات القليلة الماضية، وخاصة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد اللاحق من جانب مجموعة السبع في استخدام العقوبات المالية.
وظهر عدد من التكتلات الاقتصادية التي أشارت إلى عزمها على التنويع بعيداً عن الدولار وعلى رأسهم مجموعة البريكس التي تضم الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا.
وكان انضمام السعودية والإمارات ومصر والأرجنتين وإيران وإثيوبيا لتحالف البريكس في بداية عام 2024 إثباتاً على عزم المجموعة على الاستمرار، مع دعوتها لإنشاء عملة البريكس، تزامناً مع تعزيز الاتفاقيات لاستبدال الدولار الأمريكي بالعملات المحلية الخاصة بالدول الأعضاء في التبادلات التجارية. كما أعلنت روسيا والصين في مايو 2024، توقيع شراكة استراتيجية لمجابهة خطط الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية.
الخاتمة
ربما لم تقترب بعد هذه المحاولات من كسر هيمنة الدولار بشكل كبير، إلا أنها أثارت تساؤلات بشأن إمكانية تغير المشهد الاقتصادي العالمي في العقود المقبلة، خاصة وأنه من المتعارف عليه تاريخيا أن التحولات الكبرى على الصعيد الدولي لا تأتي بشكل مباشر، وإنما دائما ما تأخذ الطابع التراكمي الذي يصل في النهاية إلى نقطة يؤرخ بها كنقطة تحول.
المراجع
https://data.imf.org/?sk=e6a5f467-c14b-4aa8-9f6d-5a09ec4e62a4
https://www.westernunion.com/blog/en/us/all-about-dollarization-which-countries-use-usd-and-why/
https://home.treasury.gov/system/files/206/Appendix1FinalOctober152009.pdf
https://www.atlanticcouncil.org/programs/geoeconomics-center/dollar-dominance-monitor/
https://www.bis.org/publ/work1083.htm
https://unctad.org/publication/world-of-debt
https://www.marmoremena.com/en/insights/saudi-arabia-and-its-us-dollar-peg-dilemma/
https://www.imf.org/external/datamapper/NGDPD@WEO/OEMDC/ADVEC/WEOWORLD
https://www.ecb.europa.eu/pub/pdf/scpwps/ecbwp1288.pdf
https://www.nytimes.com/interactive/2022/03/11/us/how-covid-stimulus-money-was-spent.html
كتاب: تاريخ النظام المالي العالمي، تأليف :لاري آلين.