في 28 مارس، وقع وزير الدفاع اللبناني ميشال منسى مع نظيره السوري مرهف أبو قصرة في السعودية اتفاقية لترسيم الحدود المشتركة بين لبنان وسوريا وتعزيز التنسيق الأمني الثنائي، على أن تُنشَأ “لجان قانونية ثنائية ومتخصصة” وتُفعَّل “آليات تنسيق لمواجهة التهديدات الأمنية”.
جاء الاجتماع على وقع اشتباكات عنيفة شهدتها الحدود شمال شرق لبنان مع سوريا في منتصف مارس 2025، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة من صواريخ أرض- أرض وصواريخ مضادة للدروع وعربات مصفحة. الاشتباكات بدأت عقب مقتل 3 عناصر من الجيش السوري على يد عناصر من حزب الله تجاوزا الحدود اللبنانية نحو منطقة القصير السورية، وفقًا لرواية وزارة الدفاع السورية. من جهة أخرى، تقول الرواية اللبنانية أن القتلى هم مهربون سوريون دخلوا منطقة حوش السيد علي اللبنانية وقتلوا هناك قبل أن تسلَّم جثثهم إلى الجانب السوري عبر الصليب الأحمر اللبناني.
لم تكن هذه الاشتباكات الأولى من نوعها منذ تحرير دمشق وسقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، ففي مطلع فبراير 2025 سيطرت إدارة الأمن العام السورية على عدد كبير من المزارع والمستودعات المخصصة لتصنيع المخدرات، ما دفع مجموعات قيل إنها موالية لحزب الله لاختطاف عنصرين من الجيش السوري قبل إطلاق سراحهما لاحقًا. تلا ذلك اشتباكات عبر الحدود استمرت يومين، أدت لمقتل سوري وإصابة اثنين آخرين في محيط منطقة القصير.
أزمة متجددة، واستثمار إسرائيلي
أعاد الحدث والاجتماعات التي تلته قضية الحدود اللبنانية- السورية إلى الواجهة مجددًا، وهي أزمة شائكة تتخللها اعتبارات قانونية وأمنية وجغرافية واجتماعية معقدة، تأتي الاشتباكات الأخيرة فيها كتفصيل مفصلي في سياق أعم وأشمل.
تعود الأزمة إلى توقيع اتفاق الترسيم النهائي بين لبنان وسوريا في عام 1970، والذي أقر بوجود 27 نقطة خلافية على طول الحدود ومناطق متداخلة منها منطقة حوش السيد علي التي جرت فيها الاشتباكات الأخيرة. وفي عام 2006، دعا قرار مجلس الأمن رقم 1680 سوريا إلى “الاستجابة” لطلب لبنان بـ “ترسيم حدودهما المشتركة”، وأكد على ذلك القرار 1701 عقب حرب يوليو بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي. لكن العملية ستكون شائكة للغاية، إذ تشتمل الحدود على بلدات متداخلة وسكان مختلطين على طول ما يقرب من 375 كيلومترًا، مثل قرى وادي خالد، والطفيل، والقصير، وحوش السيد علي، وصولًا إلى مزارع شبعا في الجنوب التي تعد أكبر عائق أمام نجاح الترسيم والتي يحتلها الاحتلال الإسرائيلي منذ عام ١٩٦٧.
إلى جانب الاعتبارات الرسمية، تؤثر على قضية مزارع شبعا اعتبارات سياسية وأمنية كونها محتلة إسرائيليًا، فبينما يتمسك حزب الله بلبنانيتها ويدرجها ضمن خطابه تحت عنوان المقاومة، تسعى الأطراف المناوئة له في لبنان للتخلص من هذا الملف عبر تلزيمها لسوريا وتخليص الحزب من هذه الذريعة التي تبرر له قانونيًا استمرار المقاومة وحمل السلاح ضد إسرائيل.
وعلى الجانب السوري، فإن الاعتراف بمزارع شبعا أرضًا سورية سيضيف عبئًا سياسيًا وأمنيًا جديدًا على الإدارة السورية في دمشق، والتي تتعامل اليوم مع ملف الجنوب السوري الذي توغل فيه الاحتلال الإسرائيلي بالطرق الدبلوماسية لتجنب الضغوطات الأمريكية والابتزاز الإسرائيلي. لذا، سيعزز اعتراف دمشق بمزارع شبعا أرضًا سورية أوراق الابتزاز الإسرائيلية والأمريكية.
ملف السلاح والمخدرات، والتهريب عبر الحدود
تشتمل الحدود بين الجانبين على قرابة 130 معبرًا غير شرعي، منها 53 معبرًا قرب معقل حزب الله في البقاع اللبناني. ومنذ سقوط نظام الأسد، أعلنت دمشق عن تفكيك حوالي 20 خلية اتجار بالمخدرات، بعضها لمجموعات لبنانية وأخرى لفلول الأسد، و6 خلايا أخرى لتهريب السلاح. ومن اللافت أيضًا أن إدارة الأمن العام السورية اعتقلت في أواخر فبراير 2025 عضوًا في الحشد الشعبي العراقي في غرب حمص بتهمة تهريب الأسلحة أيضًا.
يشير كل ذلك إلى مواصلة حزب الله جهوده لوصل طريق إمداده البري عبر سوريا بعد انقطاعه إثر سقوط نظام الأسد، وهو ما عبر عنه أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم في خطاب له في 14 ديسمبر 2024 بأن الحزب رغم خسارته “طريق الإمداد العسكري”، إلا أنه “يمكن أن نبحث عن طرق أخرى”.
على صعيد آخر، عملت مجموعات عشائرية من أبناء البقاع اللبناني، الموالين لحزب الله، على توسيع شبكاتها لصناعة المخدرات والإتجار بها مستفيدة من الفوضى التي سادت الحدود مع سوريا منذ بدء الثورة عام 2011. كما استفادت هذه المجموعات من مشاركتها رديفة لحزب الله ونظام الأسد في معاركهم مع فصائل الثوار، حيث استطاعت بذلك تعزيز نفوذها على جانبي الحدود وإنشاء علاقات مع قائد الفرقة الرابعة في جيش النظام ماهر الأسد، الذي استفاد منها في الإتجار بالمخدرات. توازيًا مع ذلك، عززت هذه المجموعات قوتها العسكرية بعد حصولها على كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والنوعية، ما جعلها بذلك توازي أو تتجاوز أحيانًا نفوذ حزب الله وقراره وسياسته، لتشكل في نهاية المطاف عبئًا إعلاميًا وسياسيًا على الحزب.
في ضوء كل ذلك، يحدث الخلط أحيانًا بين هذه المجموعات وقرار حزب الله السياسي والميداني، فيُنسب أي عمل أمني في تلك المنطقة لحزب الله حتى وإن لم يتبناه الحزب، بينما يتحمل الحزب تبعات ذلك والمسؤولية عنه لسكوته سنوات طوال على أنشطة هذه المجموعات وتغطيتها والاستفادة منها.
في عام 2023، قُدرت قيمة تجارة المخدرات لدى نظام الأسد بحوالي 2 مليار دولار سنويًا، من أصل نحو 10 مليارات دولار من إجمالي التجارة العالمية السنوية. وفي هذا السياق، فإن جزءًا لا بأس به من هذه القيمة يعود بالنفع على المجموعات اللبنانية المشاركة في هذه الأنشطة، فضلًا عن حزب الله.
لذلك، لا يُتوقع أن تتخلى هذه المجموعات عن هذا السوق الذي اعتمدت عليه طوال سنوات، ما يعني أن الحوادث الأمنية على الحدود مع سوريا وردود الفعل الانتقامية قد تتواصل في المراحل المقبلة.
عجز واقعي وعقبات متراكمة
تتطلب مراقبة هذه المنطقة وبقية الحدود اللبنانية السورية نشر عشرات الآلاف من قوات الحدود المجهزة والمدربة والمؤهلة بشكل جيد على الجانبين، وهو ما لا تستطيعه أي من الدولتين في الوقت الحالي في ظل غياب العديد والمعدات اللازمة وتدني الرواتب لدى الجانبين.
يتزامن ذلك مع تزايد العقبات لدى الجانبين، فالاشتباكات الدامية التي شهدتها مدن الساحل السوري خلال محاولة التمرد الأخيرة أدت لنزوح قرابة 20 ألف سوري علوي إلى لبنان، بينهم عناصر مسلحون من فلول النظام المشاركين في التمرد، كما أن ذلك يعزز السردية التي يطرحها حزب الله بين مناصريه حول سياسة طائفية تستهدف الأقليات في سوريا.
تمتلك سوريا حدودًا برية مع 5 دول، تركيا ولبنان وفلسطين المحتلة والأردن والعراق، وهي حدود طويلة تتسم بالاضطراب الأمني الدائم والصعوبة الجغرافية والتنوع الديمغرافي، ما يجعل من قضية ضبطها أمرًا بالغ الصعوبة بالنسبة لدولة فتية خرجت لتوها من حرب دامت 14 سنة. ولذا، فإن أي اضطراب إضافي لهذه الحدود يعزز نقاط الضعف لدى حكومة دمشق ويضع على عاتقها مسؤوليات إضافية تتطلب مقدرات كبيرة قد لا تتوفر في المنظور القريب، فضلًا عن انعكاس ذلك على الداخل السوري.
في ضوء ما تقدم، تبدو قضية الحدود اللبنانية السورية أكثر تعقيدًا مما تبشر به الاجتماعات الدبلوماسية، في ظل غياب صيغة واقعية للتعامل مع مجموعات التهريب المنتشرة على طول الحدود الشرقية للبنان، والتي تتسم بالعشائرية وتتبع للطائفة الشيعية المناصرة بمعظمها لحزب الله. بيد أن الحاجة ملحة بالنسبة لحكومة دمشق لتجنب نقل أي اشتباك طائفي على الحدود إلى الداخل السوري، وتفادي إيجاد الذرائع والمسببات لعمليات أمنية على غرار خلية السيدة زينب التي أعلنت إدارة الأمن العام السورية عن ضبطها في العاصمة دمشق.