صفقة نووية بطابع تجاري
ظهرت في هدوءٍ الشهر الماضي فكرةٌ جريئة خلال المفاوضات الأميركية-الإيرانية: ماذا لو لم تَسعَ الولايات المتحدة إلى كبح البرنامج النووي الإيراني فحسب، بل ساعدت أيضًا في بنائه؟ تستهدف الفكرة مباشرةً غريزة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عقد الصفقات؛ ففي مقالةٍ بـ«واشنطن بوست» كتب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن اتفاقًا جديدًا قد يفتح «فرصةً بقيمة تريليون دولار» للشركات الأميركية. كما نشر نصَّ خطابٍ كان سيُلقيه في «كارنيغي» يشرح خطط بناء 19 مفاعلًا جديدة ويقترح استثمارًا أميركيًا يعيد «إحياء الصناعة النووية المتعثّرة» في الولايات المتحدة. الرسالة واضحة: إعادة تأطير البرنامج النووي كأصلٍ اقتصاديٍّ يخلق وظائف أميركية مقابل رفع العقوبات ونقل التكنولوجيا. وهي ليست سابقة؛ فالصناعة النووية الإيرانية وُلدت بدعم «الذرة من أجل السلام» عام 1957 ثم توسعت في سبعينيات النفط، حيث تلقى كثير من علمائها تدريبهم في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعاتٍ أميركية مرموقة.
خيبة «التوجّه شرقًا» وتكلفة الشراكات المحدودة
اليوم تدفع إحباطاتُ طهران من مكاسبها الهزيلة جرّاء «الانحياز شرقًا» إلى إعادة طرق أبواب الغرب؛ فالعقوبات ما زالت تخنق التجارة وتشلّ المشروعات المشتركة. رهانُ طهران الرئيس هو روسيا: فشركة «روساتوم» تزود بوشهر بالوقود وتبني وحدتين إضافيتين تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكنها تتحرك بحذر لتفادي العقوبات الثانوية الأميركية. أما الصين فقلّصت تعاونها، خشيةً من العقوبات، بعدما كانت لاعبًا نشطًا في التخصيب وإعادة المعالجة. حتى صحيفة «جوان» المرتبطة بالحرس الثوري أقرت بأن علاقات «التوجّه شرقًا» رمزية إلى حد كبير، بلا خارطة طريق واضحة لتجاوز العقبات المصرفية واللوجستية. وهكذا باتت شراكات موسكو وبكين تكتيكية لا استراتيجية، فيما يرزح البرنامج النووي تحت بنيةٍ هرِمةٍ وانقطاع كهرباء متكرر وأزمة طاقة خانقة رغم احتياطيات النفط والغاز الضخمة؛ إذ أدت العقوبات وسوء الإدارة والبنية المتهالكة والاستهلاك المفرِط إلى تراجع العائدات وهبوط الريال وجفاف الاستثمار الأجنبي. في هذا السياق ترى طهران أن دخول الشركات الأميركية سيجلب لاحقًا الأوروبية والآسيوية، فتتحقق عودتها إلى الاقتصاد العالمي.
عقبات سياسية واقتصادية أمام تحوّل الفكرة إلى واقع
كما أوضح عراقجي، الهدف ليس تدفق استثمارات هائلة دفعةً واحدة، بل رفع العقوبات والحصول على الخبرة. إلا أن الفكرة تواجه معارضة داخلية من متشددين يصفونها بالسذاجة، بينما يتشكك وسطيون بسبب العقبات البنيوية من قيود مصرفية وفساد وبنية تنظيمية هشة. ومع ذلك يلمح بعض صناع القرار إلى نافذة نادرة في ظل دبلوماسية ترامب «العناوينية»، معتبرين أن فريقه—بقيادة المفاوض الجديد ستيف ويتكوف—قد يُغرى بعقود «عشرات المليارات». غير أن الاحتفاظ بالتخصيب مسألة حاسمة لطهران ردعًا بعد انتكاسات محورها الإقليمي، فيما يرفض كثير من الجمهوريين أي شرعنة للتخصيب. يحذّر ريتشارد نيفيو، المفاوض الأميركي السابق، من أن الإيرانيين «يضعون أرقامًا مالية على صنارة» لاصطياد صفقة لامعة تخفي مخاطر كامنة؛ إذ يستحيل توقع سماح طهران بوصول خبراء أميركيين إلى مواقع حساسة مثل نطنز أو تفكيك بنيتها التحتية للطرد المركزي. ويظل النظام المصرفي الإيراني على القائمة السوداء لـ«فاتف»، ما يعني مخاطر قانونية وسمعية للشركات، فضلًا عن مقاومة الكونغرس لأي تمويل قد يُنظر إليه كدعمٍ لمنشآت نطنز. تُطرح فكرة أكثر توازنًا بإنشاء كونسورتيوم إقليمي للتخصيب يشمل السعودية، لكن الرياض متحفظة. وإذ تدرك طهران ضآلة احتمال استثمار الشركات الأميركية، فإنها تراهن على أن مجرد طرح الفكرة يعيد ضبط النقاش ويستميل مصالح ترامب الجوهرية.