المصدر: فورين بوليسي
نص الترجمة:
لا يمكن لأحد حتى الآن تحديد حجم الضرر طويل الأمد الذي سببه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه جي. دي. فانس من خلال الضغط والترهيب الذي مارسه على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على التحالف عبر الأطلسي. يحاول الحلفاء الأوروبيون التظاهر بالشجاعة،لكنهم يواجهون أزمة كاملة الأبعاد.
وقد استسلم بعض المسؤولين الأوروبيين لحقيقة تدهور التحالف عبر الأطلسي في عهد ترامب، بينما يحاول آخرون البحث عن الجوانب الإيجابية المحتملة، مثل إنهاء الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة في مجال الأمن. لكن الأمر لا يقتصر فقط على حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو على الموقف المشترك السابق ضد الإمبريالية الروسية، بل يشمل أيضًا واحدة من أطول وأكثر شراكات تبادل المعلومات الاستخباراتية نجاحًا في التاريخ.
هذا التعاون الاستخباراتي كان مفيدًا للطرفين؛ فالولايات المتحدة كانت تتمتع بنفوذ واسع في كل مكان، من الصين إلى الشرق الأوسط، بينما ساعد الأوروبيون الولايات المتحدة في فهم دوافع الكرملين في أوروبا الشرقية. أما المملكة المتحدة، فمن خلال تحالف “العيون الخمس” الذي يضم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، فقد واصلت مشاركة معلومات فك الشيفرات والمعلومات الاستخباراتية المُعترضة منذ ماقبل نهاية الحرب الباردة.
ولكن، بدأ ترامب بالفعل في استخدام تبادل المعلومات الاستخباراتية كسلاح سياسي، حيث قطع الترتيبات الاستخباراتية مع أوكرانيا للضغط على حكومتها. وأعرب مسؤولون أمنيون غربيون، تحدثوا لمجلة فورين بوليسي بشرط عدم الكشف عن هويتهم بسبب حساسية مناصبهم، عن مخاوفهم من أن يؤدي تآكل الثقة عبر الأطلسي إلى فرض قيود على تبادل المعلومات الاستخباراتية بين أوروبا والولايات المتحدة. وأكدوا أن بعض الدول بدأت بالفعل في الحد مما ترغب في مشاركته من معلومات مع الحلفاء، متبعة نهجًا ثنائيًا لمشاركة المعلومات على أساس كل حالة على حدة.
أما القلق المباشر، فهو أن ترامب، الذي لديه تاريخ في تسريب المعلومات الحساسة والسرية، على وشك أن يجتمع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومسؤولين آخرين في الكرملين، دون وجود أي حلفاء آخرين في الغرفة.
وقال مسؤول استخباراتي غربي: “بالطبع، تكون أقل ميلاً لمشاركة المعلومات عندما يكون هناك خطر حقيقي من أن ينتهي بها الأمر في موسكو أو بيد أتباع ترامب الذين لا يمكن الوثوق بهم”.
لقد أثارت إدارة ترامب الثانية بالفعل تساؤلات خطيرة لدى الحلفاء الأوروبيين، بمن فيهم أعضاء الناتو، حول مكان انحياز الرئيس في الشؤون الدولية.
وقال مصدر أمني أوروبي: “علينا أن نحكم على ترامب بناءً على أفعاله وكلماته معًا. إنه يريد طرد كندا من تحالف العيون الخمس، وعين تولسي غابارد مديرة للاستخبارات الوطنية وكاش باتيل مديرًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي. من الواضح أن هذا تغيير كبير عن القاعدة وسيجعلنا نفكر مليًا”.
وكانت مسألة الثقة – أو غيابها – مع ترامب في منصبه موضوعًا متكررًا.
وقال مصدر استخباراتي بريطاني: “لقد تم بناء الثقة داخل حلف الناتو على مدى عقود، منذ عام 1949. وقد بنيت من خلال مواجهة تهديدات مشتركة مثل الاتحاد السوفيتي والإرهاب العالمي. لكنها واحدة من تلك الأشياء التي يصعب بناؤها ويسهل هدمها”.
بالطبع، سبق أن حدثت خلافات بين واشنطن والعواصم الأوروبية. على سبيل المثال، خلال أزمة السويس عام 1956، حين ضغطت الولايات المتحدة على فرنسا والمملكة المتحدة لسحب قواتهما من مصر. ومع ذلك، فإن وكالات الاستخبارات عادةً ما تفهم أن السياسيين يأتون ويرحلون، في حين أن المؤسسات تدوم لعقود.
وقال المصدر الاستخباراتي البريطاني: “ما قد يكون مختلفًا في حالة ترامب هو دعمه الظاهر لدكتاتور روسي فعلي وتسييسه المفرط للوكالات الحكومية”. وأضاف: “والحقيقة أننا لم نتجاوز سوى شهر واحد من أربع سنوات. لا يزال هناك الكثير من الوقت لإلحاق ضرر طويل الأمد”.
ويخشى مسؤولو الناتو أنه إذا استمرت هذه الاتجاهات التنازلية في الثقة بين الحلفاء، فسيجعل ذلك من الصعب عمليًا الدفاع عن حدود التحالف.
وقال أحد مسؤولي الناتو: “هذا يعني أننا نحصل على معلومات أقل حساسية وأقل فائدة مركزيًا”. وأوضح أن الثقة، بطبيعة الحال، طريق ذو اتجاهين. وقد أدى التصدع في العلاقات بين ترامب وأوروبا إلى افتراض بعض المسؤولين أن الولايات المتحدة، تماشيًا مع موقف الرئيس العدائي، ستشارك الآن معلومات استخباراتية أقل مع الحلفاء الأوروبيين.
وأبرز العديد من المسؤولين الأمنيين أنه إذا وجد الحلفاء أنفسهم في وضع يحصلون فيه على معلومات إشارات أقل (SIGINT)، فإنهم سيفقدون معلومات قيّمة حول ما قد يخطط له الخصوم. وإذا حصلوا على بيانات استطلاع واستكشاف ورصد أهداف أقل، فسيصبح من الأصعب عليهم الدفاع عن أنفسهم ضد الأعداء.
وفي الأسبوع الماضي، أفادت التقارير أن وزير الدفاع بيت هيغسيث أمر بوقف الهجمات السيبرانية على روسيا (مع أن وزارة الدفاع نفت ذلك لاحقًا). واعتبر العديد من الأوروبيين هذا بمثابة بداية تآكل أكبر. حيث أتاح ذلك الفرصة لروسيا ووكلائها لتعزيز سيطرتهم على الفضاء المعلوماتي، كما أرسل رسالة من واشنطن إلى موسكو بأن الولايات المتحدة لم تعد ترى مراقبة أو تعطيل الأنشطة السيبرانية للكرملين أولوية.
ولا أحد يعلم إلى أين قد يقود هذا الأمر في النهاية. فترامب وحزبه الجمهوري يبدو أنهما أقل اهتمامًا بمواجهة روسيا مقارنة بأولويات جيوسياسية أخرى(ومحلية)، مثل الرسوم الجمركية على التجارة، والتفوق على الصين في تطوير التقنيات الحديثة. كما أنهم يتشاركون في أولويات أيديولوجية مع موسكو، مثل إعادة تأكيد النظام الأبوي وكره النشطاء التقدميين.
وقد كانت رؤية فريق ترامب، وخاصة جي. دي. فانس، واضحة في أن أفضل طريقة لتحقيق السلام في أوكرانيا ليست من خلال القوة العسكرية التقليدية، بل عبر ترتيبات اقتصادية تُعتبر استغلالية في جوهرها.
وعلاوة على ذلك، فإن تدمير القدرة المؤسسية للدولة الأميركية بقيادة وزارة “كفاءة الحكومة”، إلى جانب الهجوم الشامل على خدمات مكافحة التجسس مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي يلقي ترامب عليه باللوم في ملاحقة المتورطين في هجوم 6 يناير 2021 على مبنى الكابيتول الأميركي، يوحي بأن الولايات المتحدة لن تسعى حتى لجمع مستويات المعلومات الاستخباراتية التي كانت تجمعها منذ نهاية الحرب الباردة. وكما يقول التقرير: “لا يمكنك مشاركة ما لا تملكه”.
وفي أفضل السيناريوهات، سيشد الأوروبيون على أسنانهم ويجتازون السنوات الأربع المقبلة، على أمل ألا يشارك ترامب معلومات حساسة مع الخصوم أو يُبقيهم في الظلام أكثر من اللازم. أما في أسوأ الحالات، فقد تجد أوروبا نفسها على حين غرة بسبب تصعيد من روسيا، كان يمكن لحليفها الوثيق أن يحذرها منه.
وفي كلتا الحالتين، فإنه بمثابة صب برميل آخر من الوقود على نار تهدد بحرق الجسر العابر للأطلسي. وحتى إذا خرجنا من الولاية الثانية لترامب دون أضرار جسيمة، فلا ضمانة بأن هذا الجسر سيُعاد بناؤه يومًا ما.