في انتظار ما بعد وقف إطلاق النار
منذ وقف إطلاق النار الهشّ الذي أُعلن في 19 يناير، والصفقة التي جرى فيها تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، طُرح سؤال جوهري: ماذا سيحدث لقطاع غزة وسكّانه البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة؟ لقد حوّلت الحرب جزءاً كبيراً من غزة إلى أطلال؛ فمدارسها ومستشفياتها وبناها التحتية وبيئتها الطبيعية مدمَّرة إلى حدٍّ بعيد، ويعيش قسمٌ ضخم من سكانها بلا مأوى كافٍ. ويُفاقِم القلق من انهيار محتمل للهدنة شعوراً يومياً بالرعب من دمار إضافي. وفي حين لوّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأفكار متخيلة عن «استيلاء» أميركي على غزة أو الترحيل الدائم لسكانها، لم تُحرز القوى الخارجية تقدّماً يُذكر في صياغة استراتيجية للحكم والأمن في القطاع حتى الآن.
الغائب الغريب عن هذا النقاش هم الغزيون أنفسهم. فمن المنطقي أن نفترض أنّ أكثر من 15 شهراً من الصراع المدمِّر غيّرت تصوّرات المدنيين العاديين هناك بشأن مستقبلهم، ورؤيتهم لأرضهم، ومن يجب أن يحكمهم، وما يعتبرونه المسارات الأكثر قابلية للتحقق نحو السلام. وبالنظر إلى الثمن الباهظ الذي دفعوه جرّاء هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، قد يُتوقَّع أن يرفض السكان الحركة ويؤيّدوا قيادة بديلة. وقد يرى مراقبون خارجيون أنّ الغزيين، بعد كل هذه المعاناة، سيكونون أكثر استعداداً للتنازل عن تطلعات سياسية كبرى لصالح احتياجاتهم الإنسانية العاجلة.
غير أنّ استطلاعاً أجريناه في غزة مطلع يناير، قبل سريان وقف إطلاق النار بقليل، يقدّم صورة أكثر تعقيداً. صاغت الاستطلاعَ مجموعةُ «آرتيس إنترناشونال» ومركز «تغيُّر طابع الحرب» في جامعة أوكسفورد، ونفّذه «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» (PSR). واعتمد على بيانات التعداد السكاني واختار أفراداً في الملاجئ وفق مواقع منازلهم الأصلية لضمان التنوع الجغرافي، فشمل 500 مقابلة وجاهية (248 امرأة، 252 رجلاً) تتراوح أعمارهم بين 18 و83 عاماً، بهامش خطأ ±4 نقاط مئوية.
أظهر الاستطلاع أن شعبية حماس تراجعت بشدة منذ الأشهر الأولى للحرب، غير أنّ البدائل المطروحة تحظى بتأييد أقل، ما يفتح الباب أمام الحركة لترميم نفوذها في القطاع. كما عزّزت الحرب—بدلاً من أن تضعف—التزام الغزيين بالأهداف السياسية القصوى، وقوّضت تأييدهم لحلّ الدولتَين. والأهم أنّ سكان غزة ما زالوا محافظين على قيم متجذرة تتصل بهويتهم الفلسطينية والدينية وتعلّقهم بالأرض، وهي قيم مستعدون لصونها ولو بتضحيات جسيمة. قد تتحدّى هذه النتائج افتراضاتٍ لدى الولايات المتحدة وشركائها عن إمكان إيجاد مسار نحو سلامٍ مع إسرائيل لا يلبّي -أو على الأقل لا يعترف رمزياً- بهذه القيم الأساسية.
فجوة الحوكمة
سأل الاستطلاعُ المشاركين أيَّ حلٍّ للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يرونه مقبولاً وواقعياً في آن. قبل الحرب، كانت أغلبية واضحة من فلسطينيي غزة تؤيد حلّ الدولتين مقابل 20 في المئة فقط فضّلوا حلاً عسكرياً يفضي إلى تدمير إسرائيل. وفي استطلاع يناير، انخفضت نسبة مؤيدي الدولتين إلى 48 في المئة، في حين ارتفعت نسبة مَن يؤيدون حلّ القضاء على إسرائيل إلى 47 في المئة، ولم تتعدَّ نسبة مَن يرون دولةً ديموقراطية ثنائية القومية ذات حقوق متساوية للعرب واليهود خمسةَ في المئة.
علاوة على ذلك، وبينما رأى 48 في المئة أن التقسيم مقبول وواقعي، لم يدعم حلاً على أساس حدود عام 1967 سوى 20 في المئة؛ أما الباقون ففضّلوا صيغتين مختلفتين: دولةٌ للفلسطينيين مع «حق العودة» للاجئين وذريتهم داخل إسرائيل (17 في المئة)، أو الرجوع إلى خطة التقسيم الأممية لعام 1947 (11 في المئة). أمّا من دعموا حلّ زوال إسرائيل (47 في المئة)، فاختار أغلبهم إقامة دولة واحدة تحت الشريعة تسمح بوجود اليهود مع حقوق منقوصة (27 في المئة)، تلاهم مَن طالبوا بترحيل المهاجرين اليهود وأبنائهم -لا اليهود الأصليين قبل الصهيونية- من إسرائيل والأراضي الفلسطينية (20 في المئة).
كشف الاستطلاع أيضاً تغيّر نظرة الغزيين إلى حماس. قبل 7 أكتوبر 2023، أظهرت استطلاعات متكررة تراجع شعبية الحركة بسبب تأزم الأوضاع المعيشية وجمود مشروعها في «المقاومة المسلحة» نحو إقامة الدولة. وكما يرى مدير PSR، خليل الشِقَّاقي، قد يُنظر لهجوم أكتوبر بوصفه محاولةً من حماس لفكّ حصار سياسي لا يُطاق.
في الأشهر الأولى من الحرب، تحسَّنت مواقف الغزيين تجاه حماس؛ إذ وجد استطلاع PSR في مارس 2024 أن دعم سيطرة الحركة على القطاع ارتفع إلى أكثر من 50 في المئة، بزيادة 14 نقطة عن ما قبل الهجوم. حينذاك اعتقد معظم الغزيين أن حماس ستظل تسيطر على غزة وأنها تكسب الحرب. لكن بحلول يناير 2025، بعدما استُهدفت قيادة الحركة وأُلحق مزيد من الدمار بالقطاع، تلاشى ذلك الارتفاع من جديد.
ويُظهر الاستطلاع الأخير أنّ حماس تحظى الآن بتأييد خُمس السكان فقط، أي بانخفاض حادّ منذ مارس. لكن أياً من الفصائل الأخرى، بما فيها منظمة التحرير، لم تنل تأييداً أكبر؛ بل إنّ أكثر إجابات المشاركين كانت أنّ «لا أحد» من القيادات الحالية يمثّل الشعب حقاً. ويعتقد الغزيون أنّ القيادة الإسرائيلية تمثل الإسرائيليين أفضل مما تمثل القيادة الفلسطينية شعبها.
باختصار، يكشف الاستطلاع فراغاً قيادياً فلسطينياً تعمل حماس—رغم ضعفها—على ملئه سريعاً، في ظل غياب خطة بديلة جدّية للحكم من إسرائيل أو الولايات المتحدة، وحديث إدارة ترامب عن فكرة «النقل السكاني» المؤيدة من اليمين الإسرائيلي المتطرف. وكما يقول الشِقَّاقي: «مع أنّ معظم الغزيين لا يرَون أنّ حماس كسبت الحرب، فإنهم لا يجدون بديلاً أفضل».
القوة الكامنة
قد يُخفي ضعف التأييد لحماس حقيقةً أوسع تتعلق بدورها في غزة؛ إذ تبيّن نتائج الاستطلاع أنّ غالبية السكان ما زالت متمسكة بأهداف الحركة السياسية، مثل تطبيق الشريعة، وحقّ عودة اللاجئين وذريتهم، والسعي إلى سيادة وطنية فلسطينية.
لقياس هذا التمسك، طُلب من المشاركين سحب دائرة صغيرة تمثل «أنا» إلى داخل دائرة كبيرة ترمز إلى قيمة أو جماعة؛ يُعدّ الشخص «منصهراً» إذا وضع نفسه في مركز الدائرة الكبيرة. وتشير دراسات سابقة -من ساحات ليبيا وأوكرانيا إلى «حروب الثقافة» في أميركا- إلى أنّ هذا «الانصهار» مؤشر ثابت على الاستعداد للتضحية.
ومؤشر آخر هو اعتبار القضية «قيمة مقدَّسة» غير خاضعة للمساومة مهما تكن التكاليف. وحين يجتمع الانصهار مع القيمة المقدسة يَنشأ «فاعل متفانٍ» مستعد للتضحية حتى بحياته وأحبّته. ففي دراسات أُجريت بالعراق (2015-2017) على مقاتلي «داعش» و«العمال الكردستاني» والبيشمركة، برز أنّ الروح المعنوية المتأتية من هذا الانصهار والقيم المقدسة تفوق بكثير الموارد المادية.
والأمر نفسه ينطبق على غزيّي ما بعد 15 شهراً من الحرب. إذ يُظهر الاستطلاع استعداداً عالياً لتقديم تضحيات مكلفة لقاء تحقيق الشريعة أو حقّ العودة أو السيادة الوطنية. وكلما زاد استعداد المشارك للتضحية، قلّ استعداده لإحلال السلام مع إسرائيل.
لقياس إدراك القوة المادية والروحية، استُخدمت طريقة عرض صورتين لبدنين شبه عاريَين مع أعلام وطنية، يمكن تكبير حجمهما وعضلاتهما عبر منزلق. قارن الغزيون أنفسهم بالإسرائيليين والأميركيين والإيرانيين؛ فرأوا الفلسطينيين أقوى روحياً وأضعف جسدياً، بعكس ما رأوه لدى الآخرين.
كما أنّ الغزيين يميلون لتأطير الصراع دينياً لا سياسياً: «تحرير المسلمين من ظلم اليهود». ومع ذلك، لا يعني الدين بالضرورة التعصّب؛ إذ وجدت دراسة 2016 أنّ شباباً فلسطينيين قيّموا حياة الفلسطينيين أعلى من اليهود، لكن حين طُلب منهم تبنّي وجهة نظر الله، ساووا بين الاثنين نسبياً.
ومع ذلك، حين يقترن الدين بأجندة سياسية عدوانية «مقدسة»، يصبح الخصم «عدو الله»، ما يسهل شيطنته. وفي استطلاع يناير، وصف 67 في المئة أنفسهم بأنهم «متدينون إلى حد ما»، و31 في المئة «متدينون حقاً»، وأقل من 1 في المئة «غير متدينين». وكانت الفئة «المتدينة حقاً» الأكثر تمسكاً بالسيادة والعودة والاستعداد للتضحية، والأكثر دعماً للشريعة وقيادة حماس.
ورأى «المتدينون حقاً» و«المتدينون إلى حد ما» أن الإسرائيليين «أقل إنسانية» من الفلسطينيين، وفق مقياس بصري يبدأ بكائن شبيه بالإنسان البدائي وينتهي بإنسان كامل القامة؛ وكلما قلّ تأنسن الخصم، زاد الميل إلى العنف ضده.
ثمن السلام
مع ذلك، فالقيم الدينية والسياسية ليست مطلقة لدى الغزيين؛ إذ يعتبر 30 في المئة فقط حق العودة جزءاً غير قابل للتفاوض من الهوية، و20 في المئة الشريعة، و15 في المئة السيادة الوطنية. ومع هذا، رأت الأغلبية أنّ السيادة أهم من سلامة الأسرة—وهو ما توافق نتائجه دراسات مقاتلين ضدّ «داعش» ومعه زمن ذروة التنظيم.
وتُشير أبحاث مماثلة إلى أنّ الجماعات التي ترى نفسها ضعيفة مادياً لكنها قوية روحياً تميل إلى التشدد والاستعداد لمواصلة القتال ضد خصم أقوى. وهذا ينطبق على غزة اليوم؛ فالتضحية من أجل الأهداف المشتركة بعد حربٍ ضارية تدل على أنهم لن يتخلوا عن نضالهم مقابل أمن شخصي فحسب، ما يُثير الشكوك حول خطط «اليوم التالي» الدولية التي تفترض أنّ توفير الأمن والمعيشة -وقف القتال، المساعدات، الخيم- يكفي لاستقرار القطاع بلا تقرير مصير.
باب الاستطلاع أيضاً على توقعات الغزيين للسلام بناءً على مسارات أيّدها زعماء فلسطينيون، منهم قادة حماس الذين أبدوا في مقابلات سابقة انفتاحاً على هدنة طويلة أو سلام مشروط. ذُكّر المشاركون بهذه التصريحات ثم سُئلوا عن النتيجة الأرجح للأجيال المقبلة: هدنة، سلام، أم حرب.
قال نحو نصفهم إنهم يتوقعون سلاماً، و44 في المئة هدنة طويلة، و7 في المئة مزيداً من الحرب. ومن متوقعي السلام، انقسموا بالتساوي تقريباً بين مَن يرونه نتيجة تفاوضية (24 في المئة) ومَن يظنون أنه سيأتي بزوال إسرائيل (25 في المئة). ويرى أنصار الهدنة أو الحرب أنّ السلام الدائم مستبعد لأن التنازلات إما مرفوضة أو مؤلمة جداً.
لماذا يقاتلون؟
المفارقة أنّ تمسك الغزيين القويّ بالقضية قد يفتح أبواب تسويات لم تُبحث كفاية. فحماس تلتزم دولة فلسطينية ذات سيادة، وحق العودة، والشريعة، وهي أهداف يحققها زوال إسرائيل. ومع ذلك، تشير دراسات سابقة (2006-2013) إلى أنّ قادة الحركة لا يعدّون هذه الأهداف «قِيَماً مقدسة» غير قابلة للتفاوض، بل يمكن إعادة تأطيرها؛ فحق العودة مثلاً يمكن الإبقاء عليه رمزياً مع تطبيق عملي مرِن.
قد يتطلب ذلك مبادرات رمزية من الجانب الآخر، مثل اعتذار إسرائيلي صادق عن تهجير الفلسطينيين، وقبول عودة عدد محدود من اللاجئين، وتعويضات مالية (دية) لضحايا النكبة. غير أن أبحاثنا تظهر أنّ الحوافز أو العقوبات الاقتصادية لإجبار الفلسطينيين (أو الإسرائيليين) على التخلي عن قيمهم الأساسية تأتي بنتائج عكسية، وتزيد الدعم للعنف.
صحيح أنّ تصريحات قادة حماس قد تكون «مناورات» لتخفيف الضغط العسكري، كما يقول قادة إسرائيل. ومع ذلك، توحي نتائج الاستطلاع بأنّ الغزيين مستعدون للنظر في نتيجة دون الحدّ الأقصى المقبول لديهم إذا ترافقت مع توازن قوى يمنع هيمنة إسرائيل عسكرياً، واعتراف -ولو رمزياً- بحق العودة. فمثل هذا الاعتراف يرعى «الأرض والشرف»، الموضوع المركزي في الصراع، وقد يحرّك عملية السلام.
في المقابل، يرَى الغزيون أنّ ترك أرضهم، كما اقترح ترامب، يعني التوقف عن أن يكونوا فلسطينيين. وإن لم تُبدِ إسرائيل استعداداً للتنازل في القيم الجوهرية، ولم تتعهد واشنطن بفرض اتفاق كهذا، فستستمر غزة في القتال طالما بقي للأقلية المتفانية قدرة على إلهام الآخرين لخوض غمار صراع يفوق الخيال سعياً إلى زوال إسرائيل—وستردّ إسرائيل بقوة تدميرية أكبر بكثير.
بعد 15 شهراً من «حرب شاملة» حققت فيها إسرائيل كثيراً من أهدافها المادية المعلَنة، قد تكون أبعد من أي وقت مضى عن إخضاع غزة. فالسبب لا يقتصر على غياب استراتيجية سياسية أو خطة فلسطينية مستقبلية، ولا على تعميق رغبة الفلسطينيين في الثأر؛ بل أيضاً لأن الغزيين—على الأقل أكثرهم إخلاصاً—يعتقدون أنّ هويتهم ومكانهم في العالم مهدَّدان الآن أكثر من أي وقت مضى، وهو شعور لا يختلف كثيراً عمّا ألهم قيام الدولة اليهودية ولا يزال يغذي عزم شعبها على القتال حتى اليوم.