إن اغتيال إسماعيل هنية يمثل تحدياً كبيراً لإيران، ويسلط الضوء بشكل صارخ على حدود استراتيجيتها في الحرب غير المتكافئة. وقد كشف هذا الاغتيال الجريء الذي شنته إسرائيل عن أوجه القصور في تكتيكات الردع الإيرانية في حماية مصالحها السياسية والعسكرية. ورداً على ذلك، تفكر إيران في التحول بشكل حاسم إلى موقف أكثر صرامة، مما قد يؤدي إلى إطلاق العنان لرد عسكري قوي ضد إسرائيل. وتهدف هذه الخطوة إلى إرساء ردع مؤقت بينما تعمل إيران على استعادة وتعزيز استراتيجياتها العسكرية والأمنية الشاملة على المدى الطويل.
عداء تاريخي
تعود جذور العداء بين إيران وإسرائيل بحسب الأسطورة الإسرائيلية، إلى القصة القديمة ل”عيد المساخر” أو “البوريم”، وهو عيد يهودي يحيي ذكرى خلاص اليهود من هجوم عسكري كبير من قبل الإمبراطورية الفارسية، والتي تعرف الآن بإيران. ووفقًا لكتاب أستير التوراتي، فإن هامان، وزير الملك أحشويروش (المعروف باسم أحشويروش الأول)، ألقى قرعة (البوريم) لتحديد تاريخ مهاجمة اليهود، وذلك لإن مردخاي الزعيم اليهودي رفض الانصياع لهامان. وكشفت الملكة أستير، وهي يهودية وابنة عم مردخاي أخفت هويتها، عن المؤامرة للملك، مما أدى إلى خلاص اليهود وإعدام هامان. يتم الاحتفال بعيد المساخر في 13 أذار في التقويم اليهودي. ويؤكد هذا السرد التاريخي على العلاقة المعقدة بين اليهود والفرس، والتي تنعكس الآن في التوترات السياسية الحديثة بين إسرائيل وإيران. في حين أن الدقة التاريخية لكتاب إستير محل جدال، فإن قصته لا تزال تلقى صدى في إسرائيل.
العلاقة مع الشاه
وأما في التاريخ الحديث، وتحديداً في 5 مارس 1950 اعترفت حكومة شاه إيران محمد رضا بهلوي بإسرائيل كدولة أمر واقع. وكان هذا الاعتراف مدفوعاً بمجموعة من العوامل أهمها تعرض الشاه لعملية اغتيال في يناير 1949 على يد الشخصيات البارزة التي قادت تظاهرات مخالفة لاعتراف إيران بإسرائيل أو إقامة علاقات معها. ومن بين الأسباب الأخرى التي أدت إلى اعتراف الشاه بإسرائيل هي زياراته إلى الولايات المتحدة في نوفمبر 1949 وإدراكه في ذلك الوقت لحجم نفوذ جماعات الضغط الإسرائيلية في واشنطن وتسببت كذلك المشاكل الحدودية بين العراق وإيران ونزعات القومية العروبية بمضي الشاه قدما في هذا القرار.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الشاه تعاون مع إسرائيل في المجال العسكري. ففي 1977 تم الاتفاق على توقيع ستة مشاريع لتطوير الأسلحة والصواریخ بين إيران وإسرائيل. وعلى الرغم من التعاون العسكري وتزويد الشاه لإسرائيل بنحو 40% من احتیاجاتها النفطية إلا أن صفقات الأسلحة مع إيران کانت حيلة ومخادعة إسرائيلية. ففي كل مشروع من المشاريع الستة المشتركة، خطط الإسرائيليون لخداع الإيرانيين من خلال تزويدهم بنسخ قديمة فقط من السلاح المعني، في حين استخدموا الأموال الإيرانية لبناء جيل جديد من الأسلحة لاستخدام إسرائيل الحصري.
جذور صراع إسرائيل مع إيران ما بعد الثورة
تعود جذور العداوة بين الجمهورية الإسلامية وإسرائيل إلى الدور الفاعل الذي لعبته الشخصيات الدينية الإيرانية ضد إسرائيل حتى قبل الثورة الإسلامية في 1979. فقد قاد الكاشاني، وهو شخصية دينية مرموقة مظاهرة مناهضة لإسرائيل بعد يوم النكبة مباشرة. ومن ثم اعتبر الخميني الأب المؤسس للثورة الإيرانية أن إسرائيل لا تريد أن يحكم القرأن في البلاد الإسلامية وأضاف بأن أن “النظام الصهيوني” يعني وجود الهيمنة في المنطقة واغتصاب أراضي المسلمين ونهب ممتلكاتهم.
بالإضافة إلى الخلافات الإيديلوجية بين الخميني وإسرائيل فقد شاركت إسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة في تشكيل وتدريب وكالة استخبارات شاه إيران، المسماة “سافاك”. في عام 1961، بدأت وكالة الاستخبارات الإسرائيلية الموساد في الاضطلاع بدور أكثر بروزًا في تدريب وتطوير السافاك. حدث هذا التحول مع استبدال بعض المستشارين الأمريكيين بنظرائهم الإسرائيليين.
كانت السافاك، الشرطة السرية للشاه، سيئة السمعة بسبب قمعها وأساليبها الوحشية ضد المعارضين السياسيين، بما في ذلك الشخصيات الدينية البارزة الذين أصبحوا فيما بعد قادة الثورة الإيرانية. وكان من أبرز من تم اعتقالهم: الخميني الأب المؤسس للثورة الإيرانية، المرشد الإيراني الحالي علي خامنئي، أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس إيران لدورتين متتاليتين ومحمد بهشتي ومحمود طالقاني وحسين علي منتظري.
ومع تأسيس الجمهورية الإسلامية، تم نفخ حياة جديدة في جسد “الإسلام السياسي” ودخل الدين إلى السياق السياسي الإيراني. وبات من الواضح جداً أن الجمهورية الإسلامية، بطبيعتها الإيدلوجية، لا تستطيع التعامل مع إسرائيل. فطبيعة الجمهورية الإسلامية تقوم على الإيمان العميق بإيديلوجية الإسلام الشيعي، وطبيعة إسرائيل تقوم على الصهيونية السياسية وهذا ما قاد إلى الصراع المستمر. وفي الأيام الأولى لانتصار الثورة الإيرانية 1979، أعلنت طهران أنها لم تعد تعترف بإسرائيل وقطعت جميع العلاقات الرسمية معها. ومن ثم قامت بتسليم السفارة الإسرائيلية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وفي عام 1980، أصبحت حركة الجهاد الإسلامي، بإلهام من الثوار الإيرانيين، أول منظمة إسلامية فلسطينية تحمل السلاح ضد إسرائيل. وفي عام 1982، غزت إسرائيل لبنان لمنع هجمات الفلسطينيين. وفي غضون ذلك، ساعد الحرس الثوري الإيراني في إنشاء منظمة سياسية عسكرية شيعية جديدة تسمى “حزب الله” في جنوب لبنان وتولى هذا الحزب فيما بعد قيادة الهجمات المسلحة ضد إسرائيل من الجنوب.
وقد سعت إسرائيل منذ البداية إلى تصوير إيران على أنها الخطر القادم بعد العراق خصوصاً بأن طموحات طهران النووية كانت تهدد تفوق إسرائيل النووي والانحصاري في الشرق الأوسط. وعليه ففي سبتمبر 1994، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين إيران بأنها تهديد كبير للسلام في الشرق الأوسط في مؤتمر عقده مع اليهود الأمريكيين وقال: “إيران تسعى للحصول على سلاح نووي في غضون 7 إلى 15 سنة القادمة”. وذلك على الرغم من أن البرنامج النووي الإيراني لم يتم الكشف عنه في ذلك الوقت.
خلل في استراتيجية الحروب غير المتكافئة
خلقت ظروف الحرب العراقية الإيرانية المدمرة والتي امتدت إلى ثمان سنوات بالإضافة إلى عملية فرس النبي التي نفذتها الولايات المتحدة ضد إيران في 18 أبريل/نيسان 1988 عبر اغراق المدمرات الإيرانية “سهند” و”سبلان” والزورق الحربي “جوشان” وضرب منشأت تصفية النفط واستخراجه في كل “ساسان” و”سيري”، فهماً إيرانياً خاصاً لتطوير قدراتها العسكرية وهو الاعتماد على أسلوب الحروب غير المتكافئة عبر دعم جماعات مسلحة غير حكومية ونشرها في أماكن التهديد. بالفعل عملت هذه الاستراتيجية بشكل جيد عبر تكبيد الولايات المتحدة خسائر بشرية فادحة في العراق ومنعها من الاعداد لمهاجمة إيران بعد احتلال العراق.
ولكن عملية طوفان الأقصى أثبتت بأن ما يسمى محور المقاومة بانتشاره الواسع والقوي لم يكن قادراً على منع إسرائيل من استهداف المصالح الإيرانية ولا حتى قنصلية إيران في دمشق ولم يكن كذلك قادراً على منعها من استهداف الجنرالات الإيرانيين، فإسرائيل اغتالت في ديسمبر 2023 رضي موسوي المسؤول اللوجستي الأول في إيران ومدير فرع 108 في فيلق القدس المختص بنقل الأسلحة من إيران إلى سوريا، والفرع 109 المتخصص بنقل الأسلحة من سوريا إلى “حزب الله” في لبنان. وفي يناير الماضي اغتالت إسرائيل مسؤول الاستخبارات في فيلق القدس صادق أميد زادة. لتتجرأ فيما بعد إلى تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق والتي نتج عنها اغتيال أحد أهم قادة فيلق القدس وهو محمد رضا زاهدي.
ومن ثم ظهر أيضا بأن عملية الانتقام الإيراني لتدمير القنصلية الإيرانية “الوعد الصادق”، أي الهجوم المباشر من قبل إيران على الأراضي المحتلة لم تردع إسرائيل من تنفيذ أكثر عمليات اغتيالها جرأة، وهي اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الأراضي الإيرانية.
سيناريو الرد الإيراني
حدث تحول كبير في عقيدة الرد الإيراني بعد عملية اغتيال هنية بالمقارنة مع هجوم الوعد الصادق. هذا التحول يشير إلى أن إيران ترى بأنها يجب أن ترد وبشكل أكبر من العملية السابقة حتى لو أدى ذلك لحرب مفتوحة. هذا التحول هو نتاج اعتقاد إيران بأن عملية أبريل لم تحقق الردع المطلوب وبأن واجب الامتناع عن الحرب المفتوحة لا يقع على عاتقها اليوم بل يقع على عاتق إسرائيل والولايات المتحدة.
إيران خلال ردها العسكري المحتمل، ستعمل على الانتقال من مرحلة استعراض القوة لخلق الردع إلى مرحلة موازنة الضرر، بمعنى ستسعى إيران هذه المرة إلى إلحاق ضرر أكبر بإسرائيل من خلال استهداف القواعد العسكرية والبنى التحتية الإسرائيلية. وعليه فقد تستخدم إيران نوعاً مختلفاً من الأسلحة التي استخدمته في 13 أبريل، بحيث يمكن الحديث عن أسلحة أكثر تطوراً وتراكماً لاختراق الدفاعات الجوية الأمريكية والإسرائيلية على حد سواء.
ومن بين سیناریوهات الرد الإيراني، تعد الضربات الصاروخية والهجوم بالطائرات بدون طيار خيارات محتملة بالنظر إلى القدرات المتقدمة التي تمتلكها إيران في هذه المجالات. واعتماد طهران على هذا الأسلوب من الهجوم العسكري يعني بأن ردها لن يكون مباغتاً أو مفاجئاً وذلك لإن الأقمار الصناعية الاستخباراتية للولايات المتحدة قادرة على رصد أي صاروخ يطلق من إيران باتجاه إسرائيل، وعليه فسيعتمد الرد الإيراني على محاولة اختراق القبة الحديدية والدفاعات الجوية لحلفاء إسرائيل عبر كثافة نيرانية عالية من خلال إطلاق المسيرات قبل ساعات ومن ثم مزامنتها بصواريخ بالستية كثيرة ومتراكمة.
الترسانة الصاروخية الإيرانية
تعتبر ترسانة الصواريخ الإيرانية واحدة من أكثر الترسانات تنوعًا وقوة في الشرق الأوسط، حيث تضم مجموعة من الصواريخ الباليستية قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى. وتشمل بعض الصواريخ الرئيسية التي قد تستخدمها إيران في ردها ما يلي:
شهاب 3: وهو صاروخ باليستي متوسط المدى (MRBM) يبلغ مداه حوالي 1300 كيلومتر. وهو صاروخ أحادي المرحلة يعمل بالوقود السائل وقادر على حمل حمولة تصل إلى 1000 كجم. يعمل شهاب 3 منذ عام 2003 ويمكنه الوصول إلى أهداف في إسرائيل.
قادر: صاروخ باليستي من طراز کروز متوسط المدى، يبلغ مداه 1600 كيلومتر وسعة حمولة حوالي 750 كجم. هذا الصاروخ هو نسخة محسنة من شهاب 3 مع دقة ومدى معززين.
عماد: صاروخ عماد هو نسخة أخرى ومعدلة أيضاً من شهاب 3 ويبلغ مداه 1700 كيلومتر ويتميز بنظام توجيه لتحسين الدقة. وهو مصمم لضرب الأهداف عالية القيمة بدقة.
خرمشهر: صاروخ خرمشهر هو نسخة مطورة من صاروخ هواسونغ 10 الكوري الشمالي ويبلغ مداه 2000-3000 كيلومتر حسب الحمولة. وهو صاروخ يعمل بالوقود السائل ومعروف بمداه الكبير وسعته الكبيرة للحمولة.
فاتح: أول صاروخ فرط صوتي إيراني، تم الكشف عنه في عام 2023، يمكنه الانطلاق بسرعات تصل إلى 15 ماخ بمدى 1400 كيلومتر. يصعب اعتراض الصواريخ فرط الصوتية بسبب سرعتها العالية وقدرتها على المناورة، مما يجعلها تهديدًا كبيرًا لأنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية.
الطائرات الانتحارية والمسيرة
أحرزت إيران أيضًا تقدمًا كبيرًا في تكنولوجيا الطائرات بدون طيار، حيث طورت مجموعة متنوعة من الطائرات بدون طيار لأغراض مختلفة، بما في ذلك المراقبة والاستطلاع والقتال القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي. وتشمل هذه الطائرات كلا من:
شاهد-129: طائرة بدون طيار متعددة الاستخدامات قادرة على تنفيذ مهام الاستطلاع والقتال. يبلغ مداها 1700 كيلومتر ويمكنها البقاء في الجو لمدة تصل إلى 24 ساعة، ومجهزة بذخائر موجهة بدقة.
مهاجر-6: طائرة بدون طيار تكتيكية مصممة لمهام المراقبة والهجوم. يمكنها حمل ما يصل إلى أربعة صواريخ موجهة بدقة ويبلغ مداها حوالي 200 كيلومتر، ويمكن إطلاقها من المناطق الحدودية القريبة من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كرار: طائرة بدون طيار تعمل بمحركات نفاثة يمكن استخدامها في مهام المراقبة والقصف. يبلغ مداها 1000 كيلومتر ويمكنها حمل مجموعة متنوعة من الذخائر.
أبابيل 3: تستخدم هذه الطائرة بدون طيار في المقام الأول للاستطلاع، ويمكن أيضًا تزويدها بالقنابل لمهام الهجوم. تبلغ مدة تحملها 8 ساعات ويبلغ مداها 250 كيلومترًا.
شاهد 136: تُعرف باسم “طائرة بدون طيار انتحارية”، وهي مصممة للتحرك في الهواء قبل الاصطدام بهدفها، وتحمل رأسًا حربيًا قادرًا على إحداث أضرار جسيمة بالأهداف الإسرائيلية.
سيناريو الرد المشترك
يجب الإشارة إلى أن طهران غير معنية في توسعة الحرب، وعليه فعلى الأغلب ستنفذ عمليتها بشكل منفرد وبقدراتها الخاصة وستترك لحفائها (حزب الله انتقاماً لقائده فؤاد شكر والحوثيون في اليمن انتقاماً للهجمات الإسرائيلية على ميناء الحديدة) حرية اتخاذ قرارات وطريقة وتوقيت انتقامهم من إسرائيل في وقت لاحق، كي تبقى المواجهات محصورة في تلك المناطق ولا تتمدد إلى الأراضي الإيرانية.
ولكن هناك سيناريو أخر محتمل وهو أنه إذا ما قررت طهران الاتجاه نحو التصعيد غير المحسوب وغير المنضبط انتقامًا لهنية، فقد تبدأ ردًّا مشتركًا ومنسقًا يشمل حزب الله من لبنان والقوات الإيرانية في سوريا والحوثيين من اليمن. هذا الرد المحتمل قادر على تنفيذ هجمات منسقة على المواقع والمصالح الإسرائيلية؛ مما يرفع بشكل كبير من مخاطر اندلاع حرب إقليمية تضم تحالفات متعددة قد تشترك فيها الولايات المتحدة.
إن احتمالات التوجه نحو الحرب الكلاسيكية المفتوحة يتبع لرد إسرائيل القادم وليس هجوم إيران الأولي. فالأمر بالنسبة لإيران محسوم وهو الرد بطريقة أكبر وأقوى من رد أبريل ولذلك فإن الولايات المتحدة مع مجموعة الفاعلين الدوليين الأخريين (فرنسا وبريطانيا) وكما فعلوا في السابق سيحاولون تحييد أغلب الصواريخ والمسيّرات التي تطلقها إيران على إسرائيل لتستطيع الولايات المتحدة فيما بعد الضغط على نتنياهو بالتوقف عن عملية الرد والرد المقابل وبالتالي الحيلولة دون وقوع الحرب الإقليمية.
خاتمة: مستقبل ترميم الردع الإيراني
بالمفهوم العسكري، عملية الردع ليست مفهوماً ثابتاً بل متغيراً بحسب الظروف بحيث تستطيع الدول أن تعدل في مقومات وأدوات ردعها لخصومها طبقاً للظروف المحيطة والتهديدات المتغيرة. وعليه فإنه يجب القول بأن الردع الإيراني تجاه الخصوم هو في أدنى مستوياته خصوصاً بأنها الأن أمام تهديد مصيري فهي مهددة بخوض حرب مفتوحة تهدد بنيتها التحتية (حقول النفط والغاز والمنشآت النووية ومحطات توليد الكهرباء والسدود والأماكن الثقافية والتاريخية) والتي تفادتها على مدار سنوات. وهي مهددة كذلك بخطر أخر يهدد أمنها القومي وسيادتها الوطنية عبر انتهاك إسرائيل المتكرر لأراضيها واغتيال جنرالاتها وحلفائها ليس في إيران فقط بل في لبنان وسوريا كذلك.
لقد بات واضحاً لإيران وقادتها العسكريين بأن عوامل الردع التي استخدمتها إيران عبر سنوات ضمن ما يعرف بالحروب غير المتكافئة لم تكن رداعا لإسرائيل لتمنعها عن استهداف الأراضي الإيرانية. ولذلك فإن إيران اليوم أمام قرار مصيري بفرض معادلة ردع مؤقتة قائمة على الردع العسكري الواسع والمركز ضد إسرائيل لحين تطوير معادلة ردع جديدة وفاعلة أحد أبرز صفاتها هي الاستدامة، وتنظر إيران إلى هذه المعادلة على أنها:
1) إما عبر تقوية نظامها الأمني والاستخباراتي المخترق وتقوية بنيته كي يكون قادراً على المعاملة بالمثل، بمعنى أي عملية اغتيال إسرائيلية لأحدى الشخصيات السياسية أو العسكرية الإيرانية أو الحليفة لإيران تقابل بعملية اغتيال إيرانية لشخصيات إسرائيلية. وقد أثبتت إيران قدرتها على تفعيل هذا النوع من النفوذ في داخل إسرائيل خصوصا بعد أن أعلنت إسرائيل في أكثر من مرة إلقائها القبض على بعض الشخصيات الإسرائيلية بتهمة التخابر مع إيران.
2) أو عبر التوجه نحو صناعة القنبلة النووية والتي تطالب بها النخبة الإيرانية بعد كل فشل أمني أو عسكري تتعرض له إيران في مساحتها الوطنية أو الإقليمية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك سوء فهم نخبوي إيراني لمفهوم الردع النووي. فهذا الردع مصمم لمنع وقوع الحرب وليس لخلق ردع ضد عمليات أمنية منفردة كعملية اغتيال هنية في الأراضي الإيرانية أو عملية تخريبية ضد منشأة نووية مثل نطنز. الردع النووي قائم في جوهره على منع الخصوم من شن حرب مباشرة ومفتوحة ولا يمكن استخدام السلاح النووي لردع التهديدات المحدودة.
كل هذه المعادلات والاستراتيجيات لن تكون ممكنة إلا عبر إدراك قادة إيران العسكريين والسياسيين بأنّه لا يمكن تحقيق الردع عبر خطوات مرحلية وتكتيكة دون معالجة الهيكلية والبنية الأساسية لقوى النظام الأمني والعسكري والتي فشلت في عدد من المرّات في قدرتها على تحقيق الردع ضد إسرائيل. إن إعادة البنية والهيكلية الأمنية والعسكرية تحتاج إلى برامج طويلة الأمد وتحتاج إلى إعادة تنسيق شاملة بين جميع عناصر النظام لتكون معادلة الردع مركبة قائمة على القوى الصاروخية وقوى الحلفاء خارج الحدود (حماس وحزب الله والحشد الشعبي والحوثيين)، وبنية أمنية استخباراتية قوية في الداخل لمنع الاختراقات وقوى أمنية قادرة على النفوذ وتنفيذ عمليات أمنية واستخباراتية خارج الحدود.