يفتح قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا المجال أمام استثمارات خليجية وتركية يمكن أن تسهم في إنعاش الاقتصاد، وتسريع وتيرة التطبيع مع لبنان، والتمهيد لمحادثات محتملة مع إسرائيل، فضلاً عن ترسيخ قاعدة السلطة للحكومة الانتقالية.
لكن هذا الانفتاح يواجه تحديات كبيرة؛ من تباطؤ التعافي، والانقسامات الطائفية، إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وعودة نشاط تنظيم الدولة الإسلامية.
في 14 مايو، أصبح دونالد ترامب أول رئيس أميركي منذ 25 عامًا يلتقي مسؤولًا سوريًا، وذلك بعد يوم من إعلانه رفع جميع العقوبات عن سوريا خلال زيارته للسعودية. وأكد البيت الأبيض أن الاجتماع حضره الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بينما شارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الاتصال المرئي.
ووفق البيان، طلب ترامب من الشرع ترحيل المسلحين الفلسطينيين، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتقديم دعم في مواجهة تنظيم الدولة، إلى جانب تولي مسؤولية مراكز احتجاز التنظيم في شمال شرق سوريا. كما أشار ترامب إلى أن واشنطن قد تنظر في تطبيع العلاقات مع دمشق مستقبلًا.
جاء القرار بعد أشهر من ضغط مكثف مارسه حلفاء وشركاء رئيسيون للولايات المتحدة، أبرزهم السعودية وتركيا، إلى جانب سوريا نفسها. وقد لعبت أنقرة والرياض دورًا محوريًا في الدفع باتجاه هذا التحول، حيث رأت تركيا أن تخفيف العقوبات سيسهم في استقرار المنطقة، ويسهّل عودة اللاجئين، ويحد من النفوذ الكردي الانفصالي على حدودها، فضلًا عن فتح الباب أمام تعاون تجاري أوسع مع سوريا بعيدًا عن مخاطر العقوبات الأميركية. أما السعودية، فاعتبرت التطبيع مع سوريا جزءًا من خطة عربية أوسع لتحقيق الاستقرار، وتعهدت بتمويل إعادة الإعمار وسداد ديون سوريا للبنك الدولي إذا خففت واشنطن موقفها.
من جانبها، أعربت دمشق مرارًا عن استعدادها للامتثال لشروط واشنطن الأخيرة للتطبيع، التي شملت طرد المسلحين الأجانب، خاصة المدمجين في مؤسسات الدولة، وترحيل المسلحين الفلسطينيين، ومنع عودة تنظيم الدولة، وتولي إدارة مراكز احتجاز عناصره وعائلاتهم، إضافة إلى الانضمام لاتفاقيات أبراهام.
وفي تصريحات لاحقة، تعهد الشرع وعدد من المسؤولين السوريين بتفكيك الميليشيات الأجنبية تدريجيًا، واستئناف المحادثات الدستورية برعاية الأمم المتحدة، بل وأبدوا استعدادهم للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام إذا ما كفّت إسرائيل عن انتهاك السيادة السورية ووقف غاراتها المتكررة.
فضلًا عن السعودية، تُعد تركيا وقطر أبرز داعمين للحكومة الانتقالية بقيادة الشرع، حيث قدّمتا دعمًا ماليًا وعسكريًا مباشرًا، خاصة عبر تمويل جماعة هيئة تحرير الشام التي لعبت دورًا محوريًا في إنهاء حكم النظام السابق.
لطالما تميزت العلاقات الأميركية-السورية بالتقلب؛ فقد تحسنت في التسعينيات إثر انضمام دمشق إلى التحالف الدولي في حرب الخليج ومشاركتها في مؤتمر مدريد، لكنها تدهورت بشدة في العقد التالي بسبب دعمها لحزب الله وفصائل فلسطينية، واتهامها بالضلوع في اغتيال رفيق الحريري، ومساهمتها في زعزعة العراق خلال الاحتلال الأميركي.
وقد تعمّق هذا التدهور خلال الحرب الأهلية (2011–2024)، حيث فرضت واشنطن عقوبات واسعة ودعمت المعارضة، وصنّفت سوريا دولة راعية للإرهاب، ما أدى لعزلها شبه الكامل. وكان ترامب قد أمر خلال ولايته الأولى بشن ضربتين جويتين على سوريا في 2017 و2018 ردًا على استخدام النظام للأسلحة الكيماوية.
أُقرّ “قانون قيصر” عام 2019 كجزء من منظومة عقوبات أوسع استهدفت قطاعات الدفاع والطاقة والبناء والمالية، وقُصد منه ردع الاستثمارات الخارجية، حتى تلك الصادرة عن دول صديقة، عبر التهديد بعقوبات ثانوية شملت العزل عن النظام المالي الأميركي.
ورغم ذلك، فإن هذه المسارات محفوفة بالتحديات، خاصة تردّي البنية التحتية بعد عقد من الحرب، والتهديدات الأمنية المستمرة، مما يعني أن الاستثمارات في قطاعات حيوية كالنقل والطاقة ستحتاج لوقت طويل كي تُستأنف.
قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 2011، كانت سوريا مركزًا لوجستيًا استراتيجيًا يربط بين البحر المتوسط والخليج عبر محوري النقل الرئيسيين M4 وM5.
وقد بلغت قدرة الإنتاج النفطي حينها نحو 380 ألف برميل يوميًا، تركزت في حقول دير الزور والحسكة، وكان يتم تصدير الخام عبر ميناءي بانياس وطرطوس، إلى جانب دورها كممر محتمل لمشروعات إقليمية، أبرزها خط الغاز العربي، مما منحها أهمية جيوسياسية كممر طاقة يربط بين مصر والعراق وتركيا وأوروبا.
ورغم احتمال اهتمام بعض الشركات الأميركية بالاستثمار في سوريا، لم تشر إدارة ترامب إلى نيتها إزالة تصنيف دمشق كـ”دولة راعية للإرهاب”، وهو تصنيف قائم منذ عام 1979 بسبب دعم سوريا السابق لفصائل فلسطينية مسلّحة. ويظل هذا التصنيف أحد أبرز العوائق أمام تدفق رؤوس الأموال الغربية والاستثمارات المباشرة.
في 24 فبراير 2025، علّق الاتحاد الأوروبي مجموعة من العقوبات على سوريا، بما في ذلك القيود المرتبطة بقطاعات الطاقة والبنوك والنقل، ما أدى إلى رفع التجميد عن أصول خمسة مصارف، وتخفيف الضغط على البنك المركزي السوري، وتمديد الإعفاءات الخاصة بالمساعدات الإنسانية لأجل غير مسمّى. لاحقًا، في 24 أبريل، رفعت المملكة المتحدة العقوبات عن 12 كيانًا سوريًا، من بينها وزارات رسمية ومؤسسات إعلامية.
ومع مرور الوقت، يتوقع أن يسهم تخفيف العقوبات في تعزيز سيطرة أحمد الشرع على مفاصل الحكم داخل سوريا. فعلى المدى القريب، يمكن للحكومة الانتقالية استثمار المكاسب الاقتصادية الأولية لتعزيز شرعيتها، من خلال صرف رواتب القطاع العام بانتظام، وهي خطوة تعهدت قطر بتمويلها بدءًا من يونيو 2025، إضافة إلى تأمين السلع الأساسية وتوفير الخدمات العامة.
ومن شأن هذه الإجراءات أن ترفع من شعبية الشرع داخليًا، وتمكّنه من تعيين شخصيات موالية في الوزارات الاقتصادية الحساسة، مع تهميش الخصوم أو استيعابهم سياسيًا. كما أن تدفق الأموال الأجنبية، ووعد الانتعاش الاقتصادي، يمنح الشرع أدوات فعالة لاستيعاب زعماء الميليشيات السابقين، عبر منحهم عقود إعادة إعمار أو مواقع إدارية داخل أجهزة الدولة الجديدة، مما يقلّص هامش المعارضة المسلحة ويعزّز مركزية القرار.
وقد صاغ الفريق الاقتصادي التابع للحكومة الانتقالية “خطة استقرار أولية لمدة 100 يوم”، ترتكز على تمويل سعودي مرحلي لدعم الليرة السورية وتشغيل مصفاتَي بانياس وحمص، بهدف خفض أسعار الوقود في السوق السوداء إلى النصف قبل حلول الشتاء.
رغم ذلك، لا تزال العقبات الميدانية حاضرة. إذ لم تُدمج بعد العديد من الجماعات الطائفية في الهيكل الحكومي، من بينها الفصائل العلوية على الساحل، والدروز جنوب البلاد، والأكراد في الشمال الشرقي. بعض هذه الجماعات يرفض الاندماج بشكل قاطع، بينما يضع آخرون – خاصة الأكراد – شروطًا صعبة مثل منح حكم ذاتي إقليمي، وهو أمر لا تزال دمشق ترفضه.
كذلك، فإن رفع العقوبات قد يفتح المجال أمام تطبيع تدريجي للعلاقات بين سوريا ولبنان، وربما لاحقًا مع إسرائيل، من خلال مسار اتفاقيات أبراهام. فالعلاقة الاقتصادية التاريخية بين بيروت ودمشق، والتي تقوم على تبادل الوظائف التجارية والممرات البرية، تعطلت خلال العقدين الماضيين بفعل التدخلات السياسية، وتورّط حزب الله في الحرب السورية، وأزمة اللاجئين.
ومع الانفتاح الجديد، قد تبدأ الدولتان مفاوضات طال انتظارها حول ترسيم الحدود البرية والبحرية، وإعادة اللاجئين، وتسوية ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. أما على الجبهة الإسرائيلية، فقد أبدى الشرع استعداده للحفاظ على اتفاق الهدنة طويل الأمد، ومع تسارع مشاريع إعادة الإعمار بتمويل خليجي، تلمّح واشنطن إلى إمكانية إدخال دمشق في مسار تطبيع مشروط. وقد صرّح مسؤولون سوريون أن التطبيع مع إسرائيل “ليس مستبعدًا” إن التزمت تل أبيب بسيادة سوريا وقدّمت ضمانات أمنية متدرجة، وهو أول تصريح من نوعه منذ أكثر من عقد. مع ذلك، فإن هذا التطبيع – إن تحقق – سيستغرق وقتًا أطول مقارنة بالتطبيع مع لبنان، الذي يبدو أكثر قابلية للإنجاز، رغم صعوبته هو الآخر.
في المقابل، تبقى الساحة الأمنية عائقًا ضخمًا. فقد عاد تنظيم الدولة الإسلامية إلى النشاط في مناطق البادية الوسطى، وبدأ يستهدف البنية التحتية النفطية في حمص ودير الزور. عودة عمليات التخريب ستقلّص من إيرادات الدولة، وتضعف الثقة الدولية، وتردع الاستثمارات الأجنبية، خصوصًا في قطاع الطاقة الحيوي.
ورغم تعهدات حكومة الشرع بمحاربة التنظيم، فإن قدراتها تبقى محدودة، كما أن الدعم الدولي لم يُترجم بعد إلى عمليات ميدانية واسعة. ولا تزال التساؤلات قائمة حول مدى استعداد الأطراف الأخرى، خاصة الولايات المتحدة، لخوض مواجهة شاملة مع تنظيم الدولة في سوريا والعراق.
التوترات الطائفية تشكل تهديدًا إضافيًا، خاصة بين دروز السويداء، والفصائل العلوية المتنافسة على الموارد في الساحل، والميليشيات المدعومة من إيران في الداخل. وقد تعرّض هذه التوترات ممرات حيوية مثل طريقي M4 وM5 للخطر، وهي التي يعوّل عليها النظام لإعادة سوريا كمركز عبور تجاري إقليمي.
أما إسرائيل، فتبقى الأكثر معارضة لعملية التطبيع، إذ تعتبر الحكومة الانتقالية الإسلامية في دمشق تهديدًا لا يمكن الوثوق به، وتسعى لتوسيع نطاقها الأمني داخل سوريا. وقد كثّفت تل أبيب مؤخرًا غاراتها الجوية وتوغلاتها في الجنوب، حيث سيطرت على مناطق مثل القنيطرة وأجزاء من جبل الشيخ، مدعية أنها تحمي الدروز، وأنها ستواصل شن ضربات على أي جماعات تهدد تلك المجتمعات.
رغم إعلان حزب العمال الكردستاني عن حلّ نفسه في 12 مايو، فإن تنفيذ هذا القرار يتطلب حلّ مجموعة من القضايا المعقدة، ما يعني استمرار خطر الاشتباكات بين القوات السورية والميليشيات الكردية في مناطق الشمال الشرقي، خاصة تلك المرتبطة بالحزب.
وفي سياق الشروط الأميركية، فإن إخراج المسلحين الفلسطينيين وغيرهم من المقاتلين الأجانب من سوريا، يُعد شرطًا محوريًا لرفع العقوبات. لكن هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر، لا سيما أن بعض تلك الفصائل مدمجة ضمن مؤسسات الدولة، وقد يؤدي إقصاؤها إلى ردود فعل عنيفة، أو حتى تمرد مسلح. من جانب آخر، يشكل فشل دمشق في احتواء تهريب الكبتاغون – المخدر شبه الأمفيتاميني المرتبط بميليشيات إيرانية وشبكات إجرامية عابرة للحدود – تهديدًا آخر قد يعطل عملية إعادة الإعمار ويُعيق مسار التطبيع الدولي.