استضافت مدينة إسطنبول التركية، في 15 مايو/أيار 2025، جولة من محادثات السلام الرامية إلى وقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا. إلا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أعلن خلال مؤتمر صحفي في العاصمة أنقرة عن عدم حضوره إلى إسطنبول، نظرًا لامتناع نظيره الروسي فلاديمير بوتين عن المشاركة شخصيًا. وبدلًا من ذلك، أوفدت كييف وفدًا رسميًا برئاسة وزير الدفاع رستم أوميروف لحضور المحادثات مع الفريق الروسي.
وليست هذه المرة الأولى التي تستضيف فيها تركيا محادثات سلام بين الجانبين، إذ سبق أن استضافت في مارس/آذار 2022 عدة جولات من المباحثات بين وفود روسية وأوكرانية قبل أن تنهار سريعًا. كما شهدت إسطنبول في يوليو/تموز 2022 توقيع اتفاقية بوساطة تركية لتسهيل تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، في محاولة لمعالجة أزمة الغذاء التي تفاقمت مع اندلاع الحرب. وقد مُدّدت تلك الاتفاقية ثلاث مرات قبل أن تعلن موسكو تعليق العمل بها في 17 يوليو/تموز 2023.
علاقات متوازنة ومصالح اقتصادية
منذ اندلاع الحرب، حرصت تركيا على الحفاظ على علاقات متوازنة مع كل من أوكرانيا وروسيا، في وقت أعرب فيه الرئيس رجب طيب أردوغان مرارًا عن استعداد بلاده لاستضافة محادثات السلام بين الطرفين.
فعلى الجانب الأوكراني، شهد التعاون العسكري بين أنقرة وكييف تطورًا ملحوظًا خلال الحرب، لا سيما في مجال التسليح. إذ تستخدم طائرات “بايكار أقنجي” التركية المسيرة محركات “إيفتشينكو-بروجرس” الأوكرانية الصنع، بينما زوّدت تركيا الجيش الأوكراني بطائرات “تي بي 2” المسيرة، وتقوم حاليًا بإنشاء مصنع لإنتاج هذه المسيرات على مشارف العاصمة كييف.
وفي الجانب الاقتصادي، بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وأوكرانيا قبل الحرب نحو 7.5 مليارات دولار، وفقًا لمعهد الإحصاء التركي. وفي 13 مارس/آذار 2025، التقى وزير التجارة التركي عمر بولات ووزير الزراعة والغابات الأوكراني إبراهيم يوماكلي بالرئيس زيلينسكي، وأعادوا تفعيل اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، التي صُدّق عليها قبل الحرب لكنها عُلّقت عند اندلاعها. وتهدف الاتفاقية إلى رفع حجم التبادل التجاري إلى 10 مليارات دولار، إلى جانب تسهيل دخول الشركات التركية إلى مشاريع إعادة إعمار أوكرانيا، التي تُقدّر كلفتها بـ500 مليار دولار خلال عشر سنوات، ما يمثل فرصة اقتصادية كبرى لأنقرة.
ورغم هذا التقارب مع كييف، لم تتخلَّ تركيا عن تعاونها الاقتصادي العميق مع روسيا، التي تزودها بما نسبته 50% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي. كما تقوم شركة “روس آتوم” الروسية بتمويل وبناء محطة “أكويو” للطاقة النووية في مدينة مرسين التركية. وفي السياق ذاته، عرضت موسكو على أنقرة أن تتحول إلى مركز إقليمي لصادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا، من خلال خط أنابيب “ترك ستريم” الذي بدأ تشغيله عام 2020.
وبحسب بيانات معهد الإحصاء التركي، بلغ حجم التبادل التجاري بين أنقرة وموسكو عام 2023 نحو 60 مليار دولار، فيما تضاعفت صادرات تركيا إلى روسيا من 5.7 مليارات دولار في عام 2021 إلى 10.9 مليارات في عام 2023. ويُعزى هذا النمو إلى عدم التزام تركيا بالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، ما جعل منها بوابة استراتيجية لموسكو للالتفاف على تلك العقوبات.
ضبط أمن البحر الأسود
يمثل ضمان أمن البنية التحتية البحرية في منطقة البحر الأسود أولوية استراتيجية بالنسبة إلى تركيا، نظرًا لدوره الحاسم في تسهيل عمليات استخراج موارد الطاقة وضمان أمن ممرات العبور البحرية، لا سيما عبر مضيق البوسفور. وقد ازدادت أهمية هذه المسألة عقب تفجير أنبوب الغاز “نورد ستريم” واستيلاء الجيش الروسي على منشآت إنتاج الغاز الأوكرانية.
وتحتوي منطقة البحر الأسود على احتياطات كبيرة من الغاز الطبيعي. وقد أعلنت تركيا في السنوات الأخيرة عن اكتشافها لحقول ضخمة هناك. وبالنظر إلى أنها دولة مستهلكة ومستوردة رئيسية للغاز، ولا تمتلك احتياطات كبيرة من النفط أو الغاز، فإنها تعتمد بشكل كبير على وارداتها، خاصة من روسيا. ومع ذلك، انخفضت نسبة اعتمادها على الغاز الروسي مؤخرًا إلى 36% من إجمالي الاستهلاك، مقارنةً بالمستوى السابق الذي كان يقارب 50%، في ظل زيادة ملحوظة في واردات الغاز الطبيعي المسال.
وفي عام 2020، أعلنت تركيا عن اكتشاف حقل للغاز الطبيعي في مياه البحر الأسود قبالة سواحل ولاية سكاريا، بطاقة إنتاجية تُقدّر بـ540 مليار متر مكعب. وفي 26 ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلن الرئيس أردوغان أن الاحتياطيات المؤكدة ارتفعت إلى 710 مليارات متر مكعب، فيما بلغ الإنتاج اليومي مؤخراً نحو 5 ملايين متر مكعب، أي ما يعادل 2 مليار متر مكعب سنويًا. ومن المتوقع أن يتصاعد هذا الرقم ليصل إلى ما بين 12 و15 مليار متر مكعب سنويًا بحلول عام 2028.
وسيُسهم الاستقرار الأمني في البحر الأسود في تعزيز الاستفادة من هذه الاكتشافات، وتخفيض فاتورة الطاقة التركية، عبر تغطية ما يصل إلى 10% من الاستهلاك السنوي للغاز الطبيعي، فضلًا عن تقليص الاعتماد على واردات الغاز من دول غير مستقرة مثل إيران وأذربيجان.
غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا ولّد تحديات أمنية جسيمة لدول حوض البحر الأسود، وهدد الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة، ما أثّر سلبًا على مشاريع الطاقة القائمة والمستقبلية. فمنذ احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014، حوّلتها إلى قاعدة عسكرية استراتيجية لإثبات سيطرتها على البحر الأسود، وتوسيع نفوذها نحو أوروبا والبحر الأبيض المتوسط وجنوب القوقاز، وهو ما شكّل تهديدًا لدول حلف الناتو وحرية الملاحة. وأسهمت عمليات الحصار البحري للموانئ الأوكرانية، والسيطرة على مواقع استراتيجية مثل جزيرة الثعبان، واعتراض السفن التجارية، في إضعاف الأمن الغذائي الإقليمي والدولي.
نحو تعزيز دور أنقرة على الساحة الدولية
أثرت علاقات تركيا مع روسيا، لا سيما استحواذها في عام 2019 على منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400″، سلبًا على علاقاتها مع الولايات المتحدة، التي فرضت عليها عقوبات بسبب هذه الصفقة. وازدادت التحديات التي تواجه أنقرة في موازنة علاقاتها بين المعسكرين الروسي والغربي مع اندلاع الحرب عام 2022، ما انعكس على علاقاتها مع واشنطن.
وتدهورت أيضًا علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، إذ أعاقت تلك التوترات محاولات تركيا للمشاركة في آليات الدفاع الأوروبية، ولم تتلق بعد ردًا على طلبها المقدم عام 2021 للانضمام إلى مبادرة التعاون الهيكلي الدائم (PESCO). وازدادت الفجوة اتساعًا عندما وصفها الاتحاد الأوروبي بأنها “شريك” بدلًا من “دولة مرشحة” في مذكرته الاستراتيجية للأمن والدفاع، الصادرة في مارس/آذار 2022.
لكن أنقرة تبدو وقد غيرت من استراتيجيتها تدريجيًا، إذ بات صناع القرار الأتراك يروّجون لرؤية تعتبر تركيا جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الغربية، بغض النظر عن وضعها الرسمي داخل الاتحاد الأوروبي. ومن ثم، تسعى تركيا من خلال رعايتها لمحادثات السلام إلى إنجاح دبلوماسيتها على الساحة الدولية، بما يعزز مكانتها كوسيط بين روسيا والغرب، ويؤكد أهميتها ضمن الحسابات الأميركية في المنطقة.
ورغم تمسك الرئيس الروسي بوتين بشروطه وإصراره على التفاوض “دون شروط مسبقة”، وتعنت الرئيس الأوكراني زيلينسكي في المقابل، فإن رعاية تركيا لهذه المحادثات تزيد من فرصها في نيل دور فاعل في عملية إعادة إعمار أوكرانيا، وتعزيز أمن مشاريعها في مجال الطاقة، وتقديم نفسها كحليف حيوي لأوروبا في تأمين إمدادات الطاقة، فضلًا عن تقوية أوراقها التفاوضية في ملفات إقليمية أخرى، مثل سوريا والقرن الأفريقي.