المصدر: جيروزاليم بوست
يُقدّم الأكراد أنفسهم كأكثر الحلفاء الطبيعيين لإسرائيل في هذا المشهد المتغيّر. فهم منسجمون سياسيًا، وقادرون عسكريًا، ويتمركزون في مواقع استراتيجية.
في مقاله الأخير المنشور في جيروزاليم بوست، سلّط الكاتب سيث فرانتسمان، الصحفي والمحلل الأمني المعروف في أوساط النخبة الكردية والسياسية، الضوء على ما يراه تهديدًا تركيًا متصاعدًا ضد إسرائيل في سوريا، لا سيما في ظل الحديث عن انسحاب أمريكي متوقّع من المنطقة.
هناك مسألة مقلقة، لا تقتصر على سوريا فحسب، بل تشمل المنطقة الأوسع، وهي الطموح السياسي المتزايد لتركيا لتصبح القوة المهيمنة علىشرق البحر الأبيض المتوسط. قد يظن المراقب العادي أن هذا الطموح نابع من شخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن من يعرف العقيدة السياسية في أنقرة يدرك أن هذا التوجه أعمق من ذلك، ومشترك بين معظم التيارات.
باستثناء العقيدة غير التدخلية التي تبنّاها مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة والتي أصبحت الآن مهزومة، فإن معظم التيارات السياسية في أنقرة – سواء العلمانية أو الإسلامية – تتفق على أن من “المقدّر” لتركيا أن تكون “صانعة اللعبة” في شرق المتوسط. هذا الطموح يمتد من سواحل البوسنة وألبانيا على البحر الأدرياتيكي إلى الصومال، ويستلهم من الإرثين العثماني والبيزنطي (الروماني الشرقي).
وبغض النظر عن مدى واقعية هذا الطموح، تبقى الحقيقة أن هناك إجماعًا تركيًا شبه شامل على هذه “الرسالة الإلهية” التي يُعتقد أنها منوطة بالأمة التركية. والخطوة الأولى المتفق عليها لتحقيق هذا الهدف تتمثل في ابتلاع المناطق الكردية في سوريا والعراق، ثم التقدّم باتجاه الموصل، وحلب، ودمشق.
تُعتبر دمشق، على وجه الخصوص، محطّة مفصلية، ليس فقط لما تمثله من رمزية، بل لما تتيحه من منفذ استراتيجي إلى الساحل السوري على البحر المتوسط، وممر نحو لبنان.
المشكلة لا تكمن في الطموح ذاته، بل في كونه قيد التنفيذ بالفعل. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، أقامت تركيا أكثر من 40 نقطة عسكرية في المناطق الكردية شمال العراق، وهذه النقاط ليست مؤقتة، ولا توجد أي مؤشرات على نية أنقرة الانسحاب منها.
وكما أشار فرانتسمان بدقة، فقد غزت القوات التركية أجزاء من شمال وغرب سوريا، وتُديرها اليوم بشكل شبه مستقل عن دمشق. فهناك محافظون أتراك يديرون هذه المناطق، وخدمات بريدية تركية تعمل فيها، كما تم استبدال العملة المحلية بالليرة التركية.
ولولا النهج الإسرائيلي الوقائي والضربات المحدودة، لكانت تركيا أقامت على الأرجح قاعدة عسكرية قرب مدينة تدمر الرومانية القديمة، مزوّدة بمنظومة الدفاع الجوي الروسية “S-400”. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المنظومة صُممت خصيصًا لتحييد الطائرات المقاتلة من طراز F-35، وهي طائرات لا تملكها سوى دولتين في المنطقة: إسرائيل والولايات المتحدة.
من المهم إدراك أن تركيا، وفق خريطتها الجيوسياسية الحالية، ترى في جهتين رئيسيتين عائقًا أمام طموحاتها التوسعية: الأكراد، الذين يسيطرون فعليًا على الأرض بين دمشق، وحلب، والموصل؛ وإسرائيل، التي تُعتبر قوة إقليمية يقظة أمنيًا، وتراهن على توازن إقليمي يضمن لها البقاء.
يُجيد فرانتسمان التعبير عن هذا المعطى عندما يتحدث عن “الدور الأمريكي الذي ساعد في تشكيل ثقل موازن لنفوذ الجهات المعاديةلإسرائيل”. واليوم، لم تعد إيران هي الفاعل الأكثر عدائية لإسرائيل في الشرق الأوسط، بل تركيا. ويضيف: “السؤال الآن هو ماذا بعد؟ وكيفستدير الولايات المتحدة إعادة انتشار قواتها؟”
الأكراد لا يريدون انسحابًا أمريكيًا من سوريا. مثل هذا الانسحاب سيؤدي فورًا إلى تعمّق التوغلات التركية، ما يعني احتلالًا، وربما حملات تطهير عرقي ضد السكان الأكراد. ومع ذلك، لا يملك الأكراد تأثيرًا يُذكر على قرارات واشنطن الاستراتيجية.
الأخطر من ذلك، أن إسرائيل بدورها تبدو فاقدة للثقة في التزام الإدارة الأمريكية الحالية بالإبقاء حتى على وجود رمزي لقواتها في سوريا لردع التهديد التركي.
فما هي الخيارات المتاحة أمام إسرائيل؟
الأكراد يُعدّون الحليف الأكثر طبيعية لإسرائيل في هذا المشهد المتغير. فهم منسجمون سياسيًا، ويتمتعون بقدرات عسكرية، ويتمركزون في مناطق استراتيجية. كما أن المجتمعات الكردية تتفهم احتياجات إسرائيل الأمنية، وتُدرك المخاطر المشتركة، وتُقدّر أي دعم، عسكري أو سياسي، قد تقدمه إسرائيل لها.
الأهم من ذلك، أن الأكراد هم السكان الأصليون في الأراضي التي تفصل تركيا عن المناطق التي، إن سيطرت عليها، ستشكل تهديدًا مباشرًا وجوديًا لإسرائيل.
قد تنسحب الولايات المتحدة من سوريا بالفعل. لكن، من خلال التعاون مع الأكراد، لا تزال لدى إسرائيل فرصة لتشكيل ردع جديد، ووقفا للأجندة التركية الرامية للهيمنة على شرق البحر المتوسط.