تجاوز الاكتساح الجمهوري في انتخابات الخامس من نوفمبر الجاري، كل استطلاعات الرأي والتوقعات التي عرضتها المؤسسات الإعلامية، ومراكز الإحصاء الأمريكية المتخصصة، وهو ما يُثير ابتداءً الشكوك عن دقة هذه التوقعات من جهة، ومن جهة أخرى دور التدخل السياسي فيها، وهل كان هناك تدخل ممنهج من قوى عميقة لصالح الحزب الديمقراطي، لإقصاء ترمب، أم أن حجم الفشل الذي سقط فيه الحزب الديمقراطي وعثرات بايدن وصورة العجوز الخَرِف قبل تنحيه، ارتدت على الحمار الأزرق (شعار الحزب الديمقراطي) فأسقطته.
وإن كان هذا لا يعني أن ضجيج ترمب وصخبه كان مبرراً حقيقياً، لمؤامرة نوعية عليه.
ولقد ظهرت النتائج التي أسقط فيها ترمب كاميلا هاريس بالضربة القاضية، على خطابه ونشوة الفوز القوية، التي أعلن فيها نصره التاريخي وحضر سؤال المستقبل لواشنطن، فكل الفضاء السياسي الأمريكي، وما يسمّى بالديمقراطية الأمريكية، بات تحت ميزان التقييم الديمقراطي التصحيحي، حيث إن هذه الديمقراطية ذاتها، تُطرح في أصول الفلسفة الغربية المعاصرة، بأنها أنزه طريقة لتمكين المشاركة الشعبية، وحرية الفرد الغربي المستقلة عن مراكز الحكم، فهل هذا المعيار ينطبق على الحالة الأمريكية؟
هنا لا يوجد للمؤسسة الدستورية، ومعيار الحقوق والنزاهة قدرة لكبح القوة الرأسمالية المهيمنة على الحزبين، والحزب الديمقراطي ذاته، يخضع لقواعد اللعبة القذرة، التي تحكم عبرها قوى النفوذ الكبرى في عالم الرأسمالية الضخم، وهنا تبخر حلم الإنسان الملون في شراكة عادلة، بانخراط أوباما ذاته في اللعبة، وكان مالكوم إكس يرفض هذا التدليس العميق لخديعة الأمريكيين الأفارقة، ويناضل لقانون حقوقي قوي، لا صَدَقَات موسمية.
ورغم أن تصويت المسلمين الأمريكيين كان بكثافة أكبر من السابق لمرشح ثالث، وهي جيل ستاين ممثلة حزب الخضر، لكن هذا التصويت لم يكن يراهن على فوزها، وإنما مجرد رفع قيمة الاحتجاج على الحزبين العملاقين، اللذين ابتلعا الحياة السياسية في أمريكا، ودُفنت تحت ظلهم، كل فرص الفوز لغيرهم، وكون أن ما يحكم سياسة الحمار الأزرق والفيل الأحمر (شعاري الحزبين)، هو قوى المصالح الشرسة من شركات الدواء إلى شركات السلاح، فإن أمريكا أبعد ما تكون عن تحقيق منجز إنساني بمعيار ديمقراطي، يضمن وضع الحقوق الإنسانية العليا للإنسان كإنسان قبل أي مصالح للقوى الرأسمالية.
وهنا؛ فذات الإنسان نفسه تخضع لمعيار مختلف، فتبادل الدور تاريخيا، في دعم تل أبيب، والمسابقة لتغطية إبادتها المستمرة في غزة، هو اليوم يبرز كمشترك صهيوني (مقدس)، لا فرق فيه بين ترمب وبايدن، الذي أعلن بأنهُ صهيوني يُمثل الأمة الصهيونية في أمريكا، هذا من نص حديثه.
لكن الصراع في واشنطن أصبح صراعا بين الذات الغربية من أصول أمريكية، فتَشكُل طبقة من الأمريكيين المواطنين من أصول غير غربية، سواء كانت أفريقية سمراء، أم حنطية أم بيضاء من العالم الجنوبي، كان أحد محفزات التصويت الهائل لصالح ترمب، فهذه الذات الغربية أرادت أن توقف قطار التجنيس والهجرة، التي حين تتطور سوف تمثل كتلة حرجة لصالح الأقليات، وبالتالي يسقط ميزان التفوق للعرق الأبيض، الذي أُسست له الحياة السياسية الغربية المعاصرة، ومشروعها من المستعمرات القديمة في العالم الجنوبي، إلى حروب الغزو المتوحشة ضد الهندي الأحمر.
وقد يُطرح سؤالٌ آخر عن حجم التصويت للأقليات لصالح ترمب، ونزع كتلة ليست قليلة يدها منهم من الثوب الأزرق، فهذا يُفهم في إطار فشل الديمقراطيين في نجدة حقيقية تغير قواعد التعاطي في الدولة العميقة، في سياسات التمييز، ووقف هذا الارتداد الضخم، لصالح اليمين المتطرف، الذي يجتاح أمريكا، وفي ذات الوقت رفض حملة الحزب ومؤسساته على الأسرة الفطرية، وتشريعات الوصاية، وتغيير الجنس، واختطاف الأطفال المعنوي والتنفيذي من محضن والديهم، فجنون المثلية الأخير، وُثقّت عنه شهادات عديدة، كونه قد حضر في وجدان الإنسان في أمريكا سواء كان من أصول غربية أم جنوبية عالمية.
إن الوجه الذي وَلجت به أمريكا ما بعد الخامس من نوفمبر، يُمثل حالة انقلاب في التوازن المعتاد بين الحزبين، فهنا هيمنة شاملة للجمهوريين، وتيه ضخم للديمقراطيين، لم يكن سببه ضعف هاريس وحده، ولكن أيضاً الجدار الصلب الذي اصطدمت به الرحلة الأمريكية، وتحول الصراع إلى كل العمق الاجتماعي بما فيه الأبيض، فهل بدأ سقوط التوافق الذي أعقب الحرب الأهلية الامريكية 1861-1865؟
أم إنه انفجار في المعيار الديمقراطي الرأسمالي، بعد ان ابتلعت الثورة الرأسمالية في أمريكا، وهيمنتها المطلقة حياة الإنسان، وما تبقى له من مساحة حرية مؤثرة لصالح استقلاله وقيمه، في دستور الآباء المؤسسين، الذي كُتب في الأصل بعد ضمان تصفية القوى القبلية للسكان الأصليين، وتحويلهم لأفراد مشتتين، تفتك بهم ظروفهم الاجتماعية وحاجاتهم الاقتصادية الملحة، والترصد السياسي عليهم، الذي لم يغِب في الكتلة البيضاء العميقة.
إن أهم القراءات التي قفزت على السطح، في محاولات إقصاء ترمب عن الترشح، هو موقف الدولة العميقة في أمريكا من ترشحه، وكيف كان الحزب الديمقراطي ينسج القضية تلو القضية له مستثمراً حماقاته، وخاصة التوجيه السياسي والمعنوي الضخم لترمب، لاقتحام الكونجرس الأمريكي (مبنى الكابيتول)، ثم خروج ترمب المتكرر من كل القضايا التي نسجها الديمقراطيون، فهل انقسمت كتلة الدولة العميقة أم اتحدت لصالحه؟
هذه مسافة يصعب تقديرها، لكنها مؤشر مهم بأن الأزمة السياسية الأمريكية، لم تنتهِ بفوز ترمب الكاسح رغم رضاه ونشوته، فتوجهات ترمب اليمينية وموقفه في قضايا العالم، بين الانسحاب والصفقات، التي تمثل لديه المشروع التنفيذي لمفهوم أمريكا البيضاء أولاً، حصل على تفويض ضخم في السادس من نوفمبر عبر الصندوق الديمقراطي، ولم يبالي الناخبون بكل حملة الحزب الديمقراطي، بل فوضوا ترمب من جديد، فما هي انعكاسات هذا التفويض، على قرارات ترمب الداخلية، وما هي ارتدادات قراره، في ترحيل الملايين، ومواجهة أمريكا الجنوبية.
هل يستطيع الكوكب الأمريكي عزل نفسه عن العالم، وهي سياسة تجتاح الغرب كله في اليمين الزاحف، فهل صناعة كون مستقل للشمال العالمي وجغرافية مغلقة، تراهن على العيش في ترف مطلق دون تحديات أمرٌ ممكن؟
وهذا الترف الغربي يستنزف من مصالح الشعوب الجنوبية ذاتها، وعبر تجار الحُكم المستبدين، الذين يُرحّلون ثروات بلدانهم للغرب بقيمة بخسة، ثم تعاد الى أسلحة تباع عليهم، أو تُبيد سياسة واشنطن بها أهل غزة، أو الحروب التي تُفتعل لصالح أنبوب الغرب المتدفق، فكيف سيُنجز ترمب خطة العزل، حتى مع الحديث الأخير عن نيته عقد صفقات متعددة تشمل ايران.
ولا شك أن الذبح المستمر في غزة لا يبالي به ترمب، تماماً كموقف بايدن، غير أن ذلك لن يضمن لأمريكا السلام، فظروف نشأة القاعدة تعود اليوم بقوة، ورغم أن الغرب ضمن الاختراق الأمني الواسع لشبكات الجهاديين العرب، ولخدمات تنظيم الدولة المجانية، التي تجاوزت تطرف القاعدة بمراحل، غير أن مفهوم المدافعة العالمية قد يتشكل من جديد، في لحظة حاسمة تستثمر الصراع الأمريكي القومي الحالي، وقد تأتي القوة العشوائية، من مزارع العنصرية الغربية ذاتها وتهوي على البيت الأبيض، دون مقدمات فتسقط كل الحسابات.