خمسة أشهر كاملة مرت على الهدنة بين لبنان وإسرائيل، حيث دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيزِّ التنفيذ في27 نوفمبر الماضي لينهي القتال الذي بدأ بقرار حزب الله إسناد غزة في 8 أكتوبر 2023، والذي اشتدت حدَّته في 23 سبتمبر 2024، وقبل نهايته تمكنت قوات الاحتلال من احتلال وتدمير قرى لبنانية حدودية.
وتلقى حزب الله ضربات نوعية متتابعة أجبرته على القبول بمبدأ التفاوض تحت القصف، وعلى الموافقة على اتفاق لوقف إطلاق نار بشروط قد يرى أنها غير مُرضية له، ووجد الحزب نفسه مضطرا إلى أحد خيارين: إما الاستمرار في القتال بغض النظر عن ثمنه ومآلاته، أو قبول اتفاق يتضمن تخليه عن سلاحه في جنوب الليطاني، ادخارا لقوته، وحماية لحاضنته، واستعدادا لجولة قادمة.
اختار الحزب وقف الحرب، وشجعته إيران على قبول الاتفاق لإدراكها خطورة استمرار الحرب على هزيمة أهم حلفائها، وتداعياتها الاستراتيجية والعسكرية الخطيرة، خصوصا بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وإعلان إيران عن استعدادها للتفاوض معه على اتفاق نووي جديد، لأنها لا ترغب في التصعيد أو في اتساع نطاق الحرب، ولأنها تدفع باتجاه إنهاء الحرب واحتواء حالة عدم الاستقرار في المحيط الإقليمي. في حين مارست أمريكا وفرنسا والسعودية ضغوطا على المفاوض اللبناني بخصوص إنهاء حالة الفراغ الدستوري وترتب على ذلك انتخاب عون رئيس للجمهورية بعد أقل من شهرين من توقيع الاتفاق، وإلزام حزب الله وحلفائه بعدم عرقلة انعقاد جلسة مجلس النواب لانتخاب رئيس للبنان، والتجديد لقائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية اللبنانية والتوافق على حزمة متكاملة واحدة، واختيار رئيس للحكومة.
وشملت بنود الاتفاق 13 بندًا إجرائيا لتنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 الذي كان قد وضع نهايةً لحرب 2006 وإن لم ينفذ بالكامل. وتضمن الاتفاق ثلاثة بنود تمت صياغتها صياغة فضفاضة غامضة تهدف إلى وحدة السلاح في لبنان، ما يفتح المجال لنزاعات محتملة بين حزب الله وبين الجيش والأمن اللبناني. والواضح أن الاتفاق ليس معاهدة لإنهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل وإ¸ ˚ن أكد المبعوث الأمريكي “آموس هوكشتاين” أن الاتفاق هو إنهاء للأعمال القتالية بشكل كامل واتفاق مستدام، يمهد للتفاوض الجاد حول حل كل النقاط العالقة في الحدود البرية بين البلدين، بمعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتفاوض بين الطرفين للتوصل إلى حدود برية معترف بها، وربما إلى اتفاق على ما هو أبعد من ذلك من قضايا. ورعت الاتفاق لجنة خماسية مشرفة على تطبيق القرار 1701، تشمل الطرفين: لبنان وإسرائيل، واليونيفل، وكانوا ثلاثتهم فيما مضى يفتقدون القدرة على إلزام الطرفين بالانصياع لقراراتها، فجاءت إضافة أمريكا وفرنسا بما يملكان من نفوذ واضح للضغط نحو تنفيذ انسحاب حزب الله وانتشار الجيش اللبناني، وانسحاب الاحتلال من الشريط الحدودي خلال ستين يوماً.
وبرغم إدراك حزب الله لنتائج الحرب إلا أنه مازال يخاطب جمهوره وحاضنته الشعبية بأن صموده هو ما جعل الإسرائيلي يوافق على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار. وأنه برغم شراسة المعركة فإن الاحتلال لم ينجح في تحقيق هدفه الأساسي من العدوان، وهو تدمير حزب الله وفرض الاستسلام عليه. وأنه على الرغم من الخسائر المؤلمة التي لحقت بالحزب، فإن مقدراته العسكرية لا تزال موجودة، وإن محافظته على المواجهة والاشتباك بنفس المستوى حتى آخر أيام الحرب هي دليل على أنه مازال محتفظا بقدر معقول من قوته. وأن الحزب يستطيع إعادة بناء واسترجاع الكثير مما تدمر من قوته، وإعادة بناء ما تهدم من بنيته التحتية، واستئناف تطوير سلاحه ومقدراته العسكرية.
وأن الحرب قد كشفت حدود وسقوف القدرة الإسرائيلية، فبينما أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن هدف الحرب على لبنان هو تأمين الشمال الإسرائيلي وعودة النازحين الإسرائيليين إلى مدنهم وقراهم في الشمال، وتدمير حزب الله وتهميشه، فإن نتنياهو اضطر إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار بدون أن يحقق أي هدف من أهدافه، حتى عودة النازحين الإسرائيليين إلى الشمال لم تزل مشروطة باستقرار وقف إطلاق النار واستمراره.
إن الحزب الذي تمكن عبر السنين من بناء قوة عسكرية كبيرة، لديه من خبرات القتال مع الاحتلال ما يمكنه من التعامل معهم في المستقبل، والمراهنة على عنصر الوقت وعلى عامل الأرض والتضاريس الجغرافية المساعدة، كما أن إيران لن تتخلى عن الحزب، أو تتركه ينهزم لإدراكها أن سقوط حزب الله يعني أن باقي ساحات المقاومة ستتداعى تباعاً وهو ما لن تسمح به بسهولة وهي تتيقن أن التصعيد الإسرائيلي الإيراني لن ينتهي عند هذا الحد، وإنما نجحت واشنطن في احتواء جولة من جولاته. ومن الصعب الوصول إلى استنتاجات نهائية فالحرب لم تنته بصورة قاطعة، ومازالت تفاعلاتها جارية ومفتوحة على احتمالات عدة.
وهناك وجهة نظر أخرى ترى أن رفض حزب الله المشاركة في الحرب وتأخره وتردده في الإسناد سمح للإسرائيلي بالضربة الحقيقية الأولى والثانية، وأعطاه الفرصة للتحكم في درجة التصعيد وفقا لأولوياته، ومكنه من استنزاف قواه المادية والمعنوية بصورة ممنهجة متدرجة، ولم يستطع الحزب أن يتماسك، فلا هو حافظ على صورته السابقة ولا هو استطاع الصمود حتى تحقيق أهدافه. إن نهج حزب الله في إسناد غزة بدأ واستمر محكومًا بسقف منخفض طوال العام الأول للحرب. ولو فرضنا أن حزب الله اتخذ قرارا بعدم الدخول في الحرب مطلقا، ربما كان متفهما وله شيء من منطق، أما الدخول المتردد المتحفظ كجبهة إسناد بالطريقة التي تمت، فقد كانت كلفته كبيرة وخسارته باهظة على مدار سنة كاملة، فلما اضطر الحزب لتوسيع الحرب كان هذا في أسوأ توقيت بالنسبة له، ولاشك أن هذه الأمور لم تستند لمنطق استراتيجي قويم.
كما أن حلفاء الحزب في إيران والعراق واليمن لم ينجحوا في ترجيح كفته، وحماية قوته العسكرية وحاضنته الشعبية. وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تدمر كل قدرات حزب الله الله، فإن الحزب قد ضَعف سياسيًّا، داخل لبنان وفي الإقليم، وخسر قدرا كبيرا من القدرات والإمكانات التي راكمها عبر السنين. ويعتبر البعض أن الوصول لهدنة في لبنان بمعزل عن جبهة غزة هو فرض لإرادة الاحتلال على حزب الله، وإرغام له على وقف جبهة الإسناد لغزة التي كانت سببا في المعارك.
الأخطاء الكبرى:
في حرب عام 2006 خرج حزب الله قويا منتصرا، وهو يحظى بسمعة قتالية شديدة الإيجابية، وبشرعية أخلاقية وشعبية غير مسبوقة، لبنانيا وعلى مستوى الأمة، لكنه ارتكب فيما بعد أخطاء كثيرة، أهمها خطآن كبيران هما:
الأول: الاستقواء على الفرقاء اللبنانيين واستخدام القوة داخل المشهد اللبناني الداخلي، وأدى هذا الاستقواء الداخلي إلى غضب وخوف وكراهية ومقاربات شاذ مختلة كمناداة البعض من داخل لبنان بإنهاء اتفاق الطائف والبحث عن اتفاق جديد يلائم المرحلة، كما علا صوت البعض بالحل الفيدرالي، وهو الأمر الذي وضع لبنان من الداخل في مرمى العاصفة، وجعل مستقبلها مرهوناً بمواقف ومتغيرات كثيرة، قد لا يحتمل اللبنانيون تبعاتها. ونشات جدالات لا تخلو من تصفية حسابات مؤجلة من جانب خصوم حزب الله عن مرحلة سيطرته على الحياة السياسية وتغول للشيعية السياسية، واستئثار حزب الله بقرار الحرب والسلم في لبنان وهذه البيئة المحتقنة هي ما حذر منها رئيس البرلمان السيد نبيه بري بدعوته ل “طي الصفحة الأخطر في تاريخ لبنان.”
الثاني: تدخل الحزب في الساحة السورية ومساندته نظام الأسد الطائفي وتورطه في دماء الشعب السوري، كل ذلك أفقده مصداقيته وخسِّره مشروعيته وأخلاقيته، وأضاع منه الكثير من شعبيته في الإقليم وفي الأمة، وتسبب في انكشافه أمنيا على نطاق واسع، وسهِّل تعرضه لاختراقات مذهلة متراكمة نتج عنها كوارث وحوادث استخباراتية كبيرة متكررة، كحادثة البيجر الأخيرة التي أدت إلى تفجير نحو 4000 من كوادر الحزب في يوم واحد، وما تبعها من حوادث ترتب عليها تعطيل شبكة الاتصالات بالكامل داخل الحزب، فواجه الحزب انهيارًا تاما في منظومة التحكم والقيادة. وبسبب هذا الانكشاف تم اغتيال قائده وزعيمه الاستثنائي السيد حسن نصر الله، مع كل قيادات الصف الأول وعدد كبير من قيادات الصف الثاني في الحزب، ثم اغتيال الأمين العام الجديد هاشم صفي الدين، وتنفيذ عمليات اغتيال واسعة لقادة الحزب في لبنان وسوريا. والظاهر أن حجم الاختراق الأمني الذي تعرض له الحزب هو بحجم الاختراق الذي تعرضت له إيران على أرضها وفي المجال الحيوي لنفوذها وعلى أرض أذرعها في العواصم العربية.
والواضح أن دائرة الاختراق طالت فصائل وحركات وشخصيات ارتبطت بالحزب وتحالفت معه، أو شاركته في أهداف أو تعاون مشترك. خرج الحزب من الحرب منهكا وأتم الاتفاق مرغما، وخرقت إسرائيل الاتفاق منذ اللحظة الأولى لسريانه، ورفضت السماح بعودة النازحين إلى بيوتهم، وأطلقت النار على القرى اللبنانية ترهيبًا لأهاليها، وواصلت إطلاق مسيراتها وطائراتها فوق الأجواء اللبنانية وصولًا إلى العاصمة، بيروت، وأطلقت نيران مدفعيتها على مواقع بحجة الاشتباه بوجود سلاح أو مسلحين. وكأنهم يعلنون أنهم خرجوا منتصرين، ويريدون تثبيت حقهم بالتدخل متى شاءوا في الأراضي اللبنانية، بعدما أصرَّ المفاوض اللبناني على رفض هذا الأمر في نص القرار، ليبقى مدرجًا في ورقة تفاهم أميركية-إسرائيلية خاصة بين الطرفين. ويبدو أن الضامن الأمريكي سمح لنفسه بدرجة من اختلاف فهم مضمون الاتفاق المعروض على الفريقين كي يقبل كل منهما بما يرضيه، ويبدو أن الفارق بين الاتفاقين هو ما ستسعى واشنطن وباريس من خلال اللجنة الخماسية إلى اختباره وتثبيته على الأرض خلال فترة الهدنة.
إذن حدث تغير ملموس في المعادلة السياسية اللبنانية فقوة حزب الله السياسية والعسكرية ضعفت، وترتب على ذلك تغير في تموضعه وفي دوره الداخلي وفي موقفه من الاستحقاق الرئاسي والحكومي، ومن موقعه في أي استحقاقات انتخابية قادمة، خاصة مع وجود رأى عام لبناني معارض للحرب ولا يُحمِّل الاحتلال وحده مسئولية الدمار الذي تعرض له لبنان وأزمات النزوح وغيرها، وإنما يجعل حزب الله شريكا أساسيا في المسئولية عن كل ما أصابه.
وبرغم وقف إطلاق النار فمازال الاحتلال يعبث في سماء لبنان، واستمرت الملاحقات والاستهداف الصهيوني لعناصر حزب الله في الساحة اللبنانية على نحن غير مسبوق وبلا رد من الحزب، ولا من الدولة اللبنانية إلا بطلب رئاسي وحكومي بالضغط الدولي على اسرائيل لتلتزم بتنفيذ القرار .1701 كما ظهر في المشهد اللبناني لأول مرة من يثرثر جهرا بكلام خطير عن تأييد التطبيع وأن التطبيع لو كان لمصلحة لبنان ولو كانت ترعاه دولة كبيرة شقيقة كالسعودية لوافق عليه واطمئن إليه.. الخ هذا الكلام الذي لو أن لبنانيا تجرأ على إعلانه قبل طوفان الأقصى لما استطاع أن يعيش في لبنان بعدها خشية من الملاحقة والاستهداف.
ولذلك كله فإن من المهم هنا الوقوف عند مستوى خسائر حزب الله في الحرب لأن الواقع أن الحزب وافق على الاتفاق لأنه هُزم، ولأن إيران أرادت وقف خسائره الكبيرة وغير المتوقعة. أي أن الحزب نفسه يدرك خسائره وهو حاليا يتصرف ليس من منطلق من أحبط أهداف إسرائيل، بل من منطلق المهزوم. والتفاصيل في هذا كثيرة بما يكفي لدحض أي شك حول هذه المسألة. والتطورات اللاحقة للاتفاق تؤكد هذا أيضا، ومنها رضوخ الحزب لانتخاب عون بعد أن كان رافضا لانتخابه طوال السنوات الماضية، وصمته تجاه اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة دون أي توافق مع الحزب، وانتهاء بحملة “تطهير أمني” واسعة أطاحت بنفوذ الحزب في كل أجهزة الأمن اللبنانية، باستثناء محدود في الأمن العام، فضلا عن وضع مطار بيروت والميناء تحت إشراف أمني أمريكي.
كما أن جهود إعادة بناء قدرات حزب الله ستواجهها تحديات حقيقية، ولا مجال لمقارنة الوضع الحالي بحالة حرب 2006 لأن خسائر الحزب في 2006 لم تبلغ أي مستوى شبيه بالخسائر الحالية، ليس فقط من حيث تدمير بنيته القيادية، ولكن من حيث تدمير ما بين (50%إلى 80%) من قدرته الصاروخية، وبسبب قطع خطوط الإمداد عبر سوريا، وهو ما يمثل قيدا استراتيجيا، وأخيرا لأن الجدية الراهنة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل لحصار الحزب غير مسبوقة، وأخيرا لأن غطاء الدولة سيرفع عنه من خلال تقويض نفوذه في المؤسسات الرسمية. ولأن الحزب “مهزوم” فإنه مضطر للاستسلام لتلك الإجراءات حتى يعالج جراحه الخارجية ويرمم الضرر الفادح في بنيته وحاضنته الشعبية. لذلك كله: في ظل التغير في سوريا والسيطرة الأمنية الأمريكية على المطار والميناء وتراجع نفوذ الحزب داخل الدولة، فإن الحزب ينتظر عملية إعادة بناء طويلة ومعقدة، ستجعل وزنه السياسي متراجعا ربما لعدة سنوات قادمة في حال ثبات العوامل الأخرى مثل الوضع في سوريا والتوازنات الإقليمية وأولوية إيران في الاتفاق مع واشنطن والذي سيشمل قطعا التزامات بخصوص علاقة إيران بوكلائها حتى لو كانت التزامات تكتيكية مؤقتة.
الجماعة الإسلامية اللبنانية:
أعلنت الجماعة الإسلامية انخراطها في الإسناد لغزة والمشاركة في الدفاع عن لبنان وإن بحجم متواضع رمزي من خلال قوات الفجر.
وفي الوقت الذي يؤكد فيه الأمين العام للجماعة أن الجماعة اتخذت القرار تحت غطاء مؤسسي بموافقة أغلبية مجلس شورى الجماعة، وغطاء دستوري وطني كفل حق الدفاع عن لبنان التي تحتل إسرائيل جزءا من أرضها، قامت الجماعة بواجبها في إسناد غزة ضد العدوان الإجرامي عليها، وأن قرار الجماعة قد أعاد لها دورها الفاعل وزاد من شعبيتها لدى الشعب اللبناني، لأن عنوان “المقاومة” يشكل رافعة شعبية وسياسية كبيرة لمن يحمله في الداخل اللبناني. وأن الفراغ الحالي الذي يعيشه السُنة في لبنان يجب أن يسد. وأن المشاركة رغم محدودية أثرها في الحرب، إلا أنها حملت رسائل سياسية ونضالية مهمة. أما مسألة الكلفة الأمنية للقرار فقد انحسرت حدة الاستهداف لقادة الجماعة وكوادرها تقريبا وغاب الاستهداف لمقراتها ومؤسساتها ما يعني أن كلفة القرار ليست كبيرة وجدواه أكبر بكثير من ضرره.
هذا ويؤكد آخرون أن الجماعة تأثرت سلبا بعد وقف إطلاق النار، فتم ملاحقة كوادرها، وانحسرت شعبيتها، وتهيبت شريحة من حاضنتها الشعبية من قراراتها على استقرارهم ومعاشهم وأمنهم. وزادت الخشية على لبنان من مشاريع علمنة ومشاريع تطبيع. كما أثيرت أثناء الحرب وبعد الهدنة تساؤلات وإشكاليات عدة في الداخل اللبناني المنقسم، واستدعى أحدهم ذكريات دامية عن الظروف التي سبقت الحرب الأهلية وكانت سببا لها للتخويف من تسلح طرف لبناني جديد، حتى لو كان محدودا ورمزيا، وهل يشجع أطرافا لبنانية أخرى للتسلح. وعلى المستوى الإقليمي فإن هذا التطور قد يشير لواحدة من التداعيات البعيدة المحتملة لمعركة طوفان الأقصى، وكيف يمكن أن تؤثر على الديناميات الوطنية والإقليمية.
وفيما يتعلق باستفادة الأحزاب الإسلامية منها على المستوى الشعبي بعد سنوات من تعرضها لضغوط كبيرة على المستوى الإقليمي، وهو ما يثير القلق لدى بعض الحكومات ويؤثر في تعاملها مع الحرب على غزة. ومهما يكن من أمر فإن الجدل الداخلي الدائر في أروقة الجماعة وبين رموزها وكوادرها، ليس حول التضامن مع غزة، وإنما حول أيهما أجدى سبيلا؟ هل الإسناد المعلن دون استطاعة توفير الحماية لقادة الجماعة وكوادرها وفي غياب السند الإقليمي السني الداعم، أم الإسناد غير المعلن كما حدث في 2006 في ولاية الأمين العام الأسبق فيصل مولوي. ومهما يكن من قول فإنه من المؤكد أن الجماعة تشهد وجهتي نظر وبغض النظر عن الأشخاص فإنه يجب أن يفكر أصحاب القرار داخل الجماعة في المصلحة الواسعة لجماعتهم، ومن المهم أن يفكر مستشاروها ومفكروها وبصورة مركزية كيف يساعدون الجماعة في هذا السياق، وأي المسارين ينصحونها به بشكل استراتيجي، لأن هذا السؤال سيظل ملحا وسيبقى محتاجا إلى حسم استراتيجي. ويجب أن يدركوا حجم المتغيرات التي حدثت، وأن لا يختلفوا في توقع توجهات واختيارات الحكومة الجديدة والسياق اللبناني والإقليمي والدولي الذي جاء بها، وأن يقدروا تأثير هذه المتغيرات والتداعيات والسياسات على وضع الجماعة، وما هي الإجراءات التي قد تطالها، وكيف تتخذ تدابير استباقية لمواجهتها. وما هي التحالفات السياسية التي تحتاجها لبنان عامة والجماعة خاصة إزاء الأجندة الأمريكية الإسرائيلية المفروضة على الحكومة والتي جاء القرار الخارجي بتشكيلها بناء عليها.
الوجود الفلسطيني المقاوم في لبنان:
يبدو أن الاختراقات التي أصابت حزب الله طالت بصورة أو بأخرى عناصر المقاومة الفلسطينية في لبنان، وإن بدرجة أقل من اختراق حزب الله. فتم اغتيال قيادات فلسطينية مهمة عسكريا وسياسيا ومن تداعيات الحرب أن الضغوط ازدادت على العمل الفلسطيني المقاوم في لبنان، وأنه بات تسليم السلاح الفلسطيني في لبنان حديثا متكررا في دوائر صنع القرار وأن الحكومة بصدد بعقد ترتيبات مع الاحتلال تشمل في حدها الأدنى ترسيم الحدود، وربما تصل في حدها الأقصى إلى التطبيع وإن كان هذا غير مرجح حتى الآن، لكنّه مطروح أمريكيا بشدة. كما تشمل نزع سلاح المخيمات الفلسطينية، وكافة الفصائل الفلسطينية، وهو أمر ستمضي فيه دون تردد. في ضوء هذا، يجب تقدير تداعيات هذه السياسات على وجود المقاومة في لبنان، وما هي التحالفات السياسية التي تحتاجها في مواجهة الأجندة الأمريكية الإسرائيلية بعد تراجع حزب الله سياسيا وعسكريا.
ومن التداعيات أن وقف إطلاق النار في لبنان دون توقف العدوان على غزة يعيد التساؤلات حول مشروع وحدة الساحات وأنه لم يكن يستند إلى أسس إستراتيجية صلبة، وأن قدرًا من المبالغة أحاط بصورة هذا المشروع من البداية، ومن التداعيات أن المقاومة الفلسطينية أثبتت أن تحالفها مع إيران كان دائمًا تحالفًا جزئيًّا ومؤقتًا، ولم تكن المقاومة أبدًا أداة إيرانية، ولا هي انخرطت في المشروع الإيراني على حساب فلسطين والقدس والأقصى.
التحديات التي تواجه الإدارة اللبنانية الجديدة:
١. إدارة الأزمة السياسية والمجتمعية: لولا ظروف تشكيل الحكومة لتوقع المراقبون أنها ستتولى إطلاق حوار وطني شامل، وإدارة المرحلة بذهنية جديدة بعيداً عن المحاصصة السياسية ومنطق الرابح والخاسر، وإنما بمنطق تضافر الجهود لإخراج لبنان من واقعه الصعب بمنهجية عمل فعالة، واستثمار الفرصة لإنجاح المؤسسات، والتحذير من الاستقواء على بيئة حزب الله وهزيمته سياسيًّا، سواء من قوى لبنانية أو رهانات خارجية، من شأنها أن تجر لبنان إلى منحدر خطير، وتسعى إسرائيل وحلفاؤها إلى دفع الجيش اللبناني إلى مواجهة مع بيئة الحزب وحاضنته، وجعله قوة ردع لهذه البيئة وتحميله مسؤولية أمن مستوطنيها في شمال إسرائيل.
والواضح أن الحكومة اللبنانية الجديدة فرضتها المعادلات الجديدة التي تشكلت وفق نتيجة الحرب، وبالتالي فهي ستعمل على تحقيق رضا أمريكا وحلفائها، لأنها من حيث الاختيار ومن حيث الأولويات ومن حيث التبعية جاءت عاكسة لهذه الصورة. لا يجب أن يكون لدينا شك في هذا. قد يكون بعض وزرائها وطنيين أو يتصفوا بالنزاهة، لكن هذا لا يغير جوهر الحكومة. هذه الحكومة مُطالَبة من قِبَل الولايات المتحدة بمطالب واضحة ومحددة، ولن يسمح لها بتجاوزها أو عدم الالتزام بها، في مقدمتها تقويض نفوذ حزب الله بما يشمل إنهاء وجوده العسكري في الجنوب، ثم تفكيك منظومته في كل لبنان، واتخاذ كافة التدابير التي تضمن عدم قدرته على التعافي سواء محاصرته ماليا ومنع إعادة تسليحه …إلخ. لذلك؛ فإنها مُطالَبة بأن تواصل التعاون التام مع أمريكا في ملفات أمن المطار والحدود والميناء والرقابة على حركة الأموال وحصر مشروعات إعادة الإعمار ضمن أجندة سياسية وأمنية تضمن عدم تسرب إيران من خلالها وتضمن أن يظل ملف إعادة الإعمار في مناطق الحزب والشيعة كأداة تفاوض وابتزاز للحزب.
٢. الأزمة الاقتصادية الطاحنة: شهد لبنان انهيارًا اقتصاديًا غير مسبوق، حيث انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقدر بنحو 6.6٪ في عام 2024 نتيجة للصراع، مما رفع الانخفاض التراكمي في إجمالي الناتج المحلي منذ عام 2019 إلى أكثر من 38٪ بحلول نهاية عام 2024، وبلغ معدل البطالة حوالي %30، بينما ارتفعت نسبة الفقر لتصل إلى أكثر من .%80 ويتوقع تقرير المرصد الاقتصادي للبنان أن ينكمش النشاط الاقتصادي بنسبة 5.7٪ في عام 2024، أي ما يعادل خسارة قدرها 4.2 مليار دولار في الاستهلاك.
مما سبق يتبين أن هناك حاجة ملحة لإجراء إصلاحات شاملة واستثمارات موجِّهة في القطاعات الحيوية لتجنب المزيد من التأخر في معالجة أولويات التنمية، وإلى برنامج للاستقرار الاقتصادي وبرنامج إصلاحات طموح يعزز الحوكمة ويعالج هشاشة استقرار سعر الصرف، ويحد من استنزاف احتياطي النقد الأجنبي.
كما أن هناك احتياجات تمويلية لسد العجز ولتأمين الخدمات الأساسية وتلبية الحاجات الملحة تحتاج إلى إسناد وتعاون للمال الخليجي والسعودي وإلى دعم دولي وأوروبي وإقليمي، وبسبب تخلف لبنان عن سداد الديون السيادية، تبرز أهمية الشروع في إعادة هيكلة الديون الشاملة لاستعادة القدرة على النفاذ إلى الأسواق المالية الدولية. ويعد تحسين أداء الخدمات والمرافق العامة من الأولويات الرئيسية. ويجب إعطاء ملف إعادة أموال المودعين الأولوية المطلوبة مع ما يستدعيه هذا الملف من إجراءات مثل إعادة هيكلة المصارف وتفعيل قانون الإثراء غير المشروع لاستعادة الأموال المنهوبة.
٣. الأزمات الاجتماعية: يعاني أكثر من %60 من السكان من انعدام الأمن الغذائي ومن تدهور الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، ولذلك يجب على الحكومة العمل على تحسين وتطوير البنية التحتية الأساسية وتقديم الدعم الاجتماعي من خلال برامج دعم للمواطنين، خاصة الفئات الأكثر ضعفًا. كما يجب عليها وقف صلاحية المحكمة العسكرية على المدنيين لتأمين العدالة وضمانات حق الدفاع، ومن المهم التنبه الى أن المجتمع اللبناني مجتمع شرقي يقوم على القيم الدينية ولا بد من تعزيز هذه القيم وعدم مصادمتها.