عادت محافظة السويداء جنوب سوريا إلى واجهة المشهد من جديد، لتدق ناقوس خطر مشاريع الاحتلال، والانفصال وتقويض الشرعية. فالاشتباكات التي بدأت بين العشائر البدوية ومجموعات درزية في 11 يوليو، على خلفية إشكال بين البدو ومزارع درزي في بلدة المسمية بمحافظة درعا، وصلت في 13 يوليو إلى حي المقوس في السويداء وشهدت عمليات اختطاف رهائن متبادلة بين الجانبين.
ومع توسع القتال إلى جميع أنحاء السويداء، ووصول عدد القتلى إلى 30 وإصابة 80 آخرين، نشرت وزارتا الدفاع والداخلية السورية في 14 يوليو قواتها في المحافظة للفصل بين الجانبين. لكنها تعرضت لهجمات من الميليشيات الدرزية التي قتلت واحتجزت عددًا من عناصر الجيش والأمن السوري. ورفض الرئيس الروحي للدروز في سوريا حكمت الهجري دخول القوات السورية إلى السويداء، وطلب في بيان له بـ “الحماية الدولية وبشكل فوري وسريع”.
في مقابل ذلك، دفعت الحكومة السورية بتعزيزات عسكرية إلى المنطقة، فبسطت سيطرتها على ريف السويداء الشمالي والشرقي واستطاعت دخول المدينة والسيطرة على بعض أحيائها بعد اشتباكات عنيفة مع الميليشيات.
وقف إطلاق النار
صباح 15 يوليو، أعلنت وزارة الدفاع السورية “عن وقف تام لإطلاق النار بعد الاتفاق مع وجهاء وأعيان مدينة السويداء، على أن يتم الرد فقط على مصادر النيران والتعامل مع أي استهداف من قبل المجموعات الخارجة عن القانون.” كما أصدر وزير الدفاع اللواء مرهف أبو قصرة تعليمات “بضرورة تأمين الأهالي والحفاظ على السلم المجتمعي، وحماية الممتلكات العامة والخاصة.”
وأعلن أبو قصرة أن قواته ستسلم المدينة لقوى الأمن الداخلي بعد الانتهاء من عمليات التمشيط وضبط الفوضى، وأن الشرطة العسكرية دخلت المدينة “لضبط السلوك العسكري ومحاسبة المتجاوزين.”
من جهة أخرى، رحبت الرئاسة الروحية للدروز في سوريا بوقف إطلاق النار، ودعت الميليشيات المحلية للتعاون مع الجهات الرسمية، كما دعت للحوار مع الحكومة وطالبت بتفعيل مؤسسات الدولة في السويداء.
أما الشيخ الهجري فقد رحب بداية ببيان الرئاسة الروحية، قبل أن يعلن التراجع عن موقفه لاحقًا زاعمًا تعرضه لضغوط من دول خارجية لم يسمها، داعيًا لمواجهة القوات الحكومية.
تدخل الاحتلال الإسرائيلي
بدا الموقف الإسرائيلي في البداية متحفظًا بعض الشيء مع تدخل محدود، حيث استهدفت طائرات الاحتلال في 14 يوليو دبابة سورية ومركبات رباعية الدفع على أطراف مدينة السويداء، كما شنت عدة غارات على أطراف بلدة مزرعة لإيقاف تقدم قوات الجيش السوري، دون إحداث تأثير جوهري في مسار المواجهات.
لكن هذه الغارات تصاعدت في 15 يوليو، حيث أعلن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس توجيه أوامر للجيش باستهداف القوات السورية في السويداء، وجددا “التزام إسرائيل بحماية دروز سوريا.”
وفي السياق، أعلن جيش الاحتلال “استهداف دبابات وناقلات جند مدرعة وراجمات صواريخ للجيش السوري في السويداء”، واستهدف كتيبة الدبابات والمدفعية ومقر اللواء 12 في مدينة إزرع بدرعا، فضلًا عن الطرق المؤدية إلى مدينة السويداء.
تزامنًا مع ذلك، جددت الميليشيات الدرزية هجماتها على القوات الحكومية في المدينة، ونصبت كمائن استهدفت أرتال جهاز الأمن الداخلي السوري، وأسفرت المواجهات عن سقوط عشرات القتلى في صفوف القوات الحكومية.
التمسك بالتوظيف الأقلَّوي
تأتي الاعتداءات الإسرائيلية مجددًا في سياق سياسة الاحتلال المعلنة لدعم الميليشيات الدرزية ذات التوجه الانفصالي، استرضاءً للحاضنة الدرزية المؤيدة للاحتلال في فلسطين المحتلة، وتعزيز الصدع بين إدارة الرئيس أحمد الشرع والأقليات الانفصالية في سوريا ما من شأنه تقويض استقرار حكم دمشق.
من جهة أخرى، تتزامن هذه الأحداث مع المفاوضات السورية- الإسرائيلية، والحديث عن لقاء مباشر جمع مسؤولين سوريين مع آخرين إسرائيليين في العاصمة الأذربيجانية باكو، ما يشير إلى توظيف هذه الأحداث من قبل الاحتلال لإضعاف الموقف التفاوضي السوري ودفعه نحو تقديم تنازلات جوهرية. وفي السياق ذاته، يثبت الاحتلال من خلال هذه الاعتداءات واقعًا أمنيًا في جنوب سوريا يحظى فيه بتفوق وسيطرة واضحة.
من شأن هذه الأحداث أن تعيق مساعي إدارة الرئيس الشرع لتوحيد سوريا تحت حكومة مركزية، كما قد تشجع “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا على توسيع نفوذها وربط مناطق سيطرتها بمحافظة السويداء، لتعزيز تحالف الأقليات ومشاريع التقسيم.
بين مأزقين
تشير الأرقام الأولية إلى سقوط أكثر من مئة قتيل في صفوف القوات الحكومية، وتتحدث تقارير عن محاصرة ما تبقى من هذه القوات داخل مدينة السويداء مع صعوبة وصول التعزيزات إليها إثر الغارات الإسرائيلية التي تقطع الطرق المؤدية إلى المدينة.
ومع سحب وزارة الدفاع السورية الأسلحة الثقيلة من المحافظة إثر وقف إطلاق النار في 15 يوليو، فإن عودة هذه القوات لم تعد ممكنة في ظل السيطرة الجوية الإسرائيلية.
أمام هذه المعطيات، تبدو إدارة الرئيس الشرع بين مأزقين: فلا هي تستطيع التراجع عن قرار بسط السيطرة على السويداء، إذ من شأن ذلك أن يضعف شرعية حكومة دمشق ويعزز موقف المشاريع الانفصالية، خاصة “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا المتعنتة أصلًا. ومن جهة أخرى، يدرك الرئيس الشرع أن مواصلة هذه المعركة ستؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوف القوات الحكومية، فضلًا عن زعزعة الثقة بين الأطراف المختلفة في المجتمع السوري على طول خط الصدع الديمغرافي.